إلا سعياً وراء ملاءمة البيئة.
يعلم مما تقدم أن ظاهرتي التمثيل والتكييف، أو بعبارة أخرى الإخضاع والخضوع، تحدثان في آن واحد ولكن بنسبة غير متساوية، أي أن أثر إحداهما قد يكون أقوى من أثر الأخرى؛ (فدارون) مثلا يؤمن بأن إخضاع الكائن؛ الحي لبيئته هو أقوى من خضوعه لها، وعلى ضوء هذا الاعتقاد يشرح لنا نظرية التطور والتنافي الحيوي من أجل البقاء والخلود، وأن طائفة من علماء الطبيعة تؤيد (دارون) وتحذو حذوه.
وهنالك فريق آخر من العلماء يخالفون (دارون) ويعتقدون عكس ما يعتقد وعلى رأسهم العالم (لامارك) وفى نظرهم أن البيئة هي التي تخضع الكائن أكثر مما تخضع له، وأن على الكائن أن يبدل من ذاته، ويغير مما بنفسه حتى يكون أكثر ملاءمة لها.
كذلك الفلاسفة من علماء الاجتماع والأخلاق ينقسمون إلى قسمين بالنسبة للبيئة الاجتماعية:
فالفريق الأول ورائده الفيلسوف (نيتشه) يرى ما يراه (دارون) في البيئة الطبيعية، وهى فلسفة القوة والبطش وأن (الرجل المثالي) في نظره الذي يستحق شرف هذا اللقب هو الذي يخضع العالم ويبطش بالرجال حتى يدينوا له وينقادوا إليه، وأن المسالمة والتسامح والعطف والعفو ما هي إلا صفات العاجز الضعيف وهى تباعد ما بين من يتصف بها عن المجد والسلطان على حد قول أبى الطيب:
ولا تحسبن المجد زقاً وقينة ... فما المجد إلا السيف والفتكة البكر
وتضريب أعناق الملوك وأن ترى ... لك الهبوات السود والعسكر المجر
وتركك في الدنيا دوياً كأنما ... تداول سمع المرء أنمله العشر
والفريق الثاني وزعيمه (أبيقور) ومدرسته ينادى بعكس ما ينادى به نيتشه وهى فلسفة الخضوع والمداراة والمصانعة، فلسفة (الدهريين)، و (الرجل العاقل) في نظره هو الذي يخضع لبيئته ويتماشى مع دهره على حد قول من قال:
ودر مع الدهر وانظر في عواقبه ... حذار أن تبتلى عيناك بالرمد
والبس لكل زمان بردة حضرت ... حتى تحاك لك الأخرى من البرد
هذه مقدمة موجزة لابد منها لتفهم بعض مظاهر سيكولوجية الطفل لأن نموه وتطوره ما هما إلا نوع من ضرورة ملاءمة البيئة، وهذا النمو نفسه هو تغيير مستمر في الشكل