للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يثق في صدق نواياه في التعاون، لأن اصطدامه بالمستعمر البريطاني أظهر له عيوب الأخلاق الدول الغربية، وأراه الإنجليز الذين أخلص لهم الولاء حض شعبه على مساعدتهم أثناء الحرب العالمية الأولى، يحنثون في وعودهم المتنكرة، ويرفضون منح الهند استقلالها، ويكبلونها بأنظمة قاسية توطد سيادتهم عليها. ولذلك لم يفكر غاندي في تقريب وجهات النظر بين الشرق والغرب كما فعل طاغور وإنما لبى نداء الوطن، وهب يخط للهنود خططاً عملية مستمدة من تقاليد الديانات الهندوكية، لمحاربة المستعمر المادي الأناني الطاغي حتى يتبين له أن مقدماته العقلية والفنية والخلقية، لا يمكنها أن تسحر روح الهند وتخدرها، ثم تغريها بمجاراة الحياة الغربية، فتتنازل على ما جبلت عليه من تعاليم وعادات، وتقبل أن تهدم كيانها الروحي من أجل محاكاة ما توصلت إليه المدنية الحديثة من رقي مادي، فيسهل على الغرب فرض نفوذه على شتى نواحي الحياة الهندية.

فوقف غاندي كالصرح العتيد أمام الغرب، يحمي تراث الهند الروحي من الضياع والتلف، ويستنهض همم الهنود لمقاومة طغيان الإنجليز. ولجأ إلى طرق فذة ناضجة في مناضلة الاستعمار في الهند، هداه إليها مزاجه الهندي السليم، وطبيعته الروحية الشرقية التي تعشق السلام والخير، وتولع بالتسامح والحب، وتكره العنف والقسوة. فاستنجد بمقومات الروح الهندية الأصلية، واستغل كلف الهنود بالزهد والمجاهدة من أجل تخليص الروح من أدران الحياة، وإعدادها للتلاشي في روح الله الكبرى التي تشمل كل محتويات الكون. وأخرجه من كهف الزاهد إلى ساحة الجهاد السياسي، وتقل مقدرة الهنود النادرة على تحمل الآلام الجسمية ومقاساة تعذيب النفس، من نطاق القوانين الدينية إلى نطاق التضحية الوطنية. ولم يكلف ذلك غاندي كبير جهد، لأنه يعلم أن الزاهد الهندي تهود منذ القدم أن يحارب شهواته بأساليب سلبية هادئة، يقومها الحب والخير والسلام. فكان يعتزل الحياة التي تشغل الإنسان بالأرض والمادة، وتلهيه عن الاتحاد بالله الذي يتحمل الزاهد في سبيل الفناء فيه كل ألوان العذاب النفسي والجسمي. فاستنتج غاندي بعبقريته الروحية أن الهندي العادي في نضاله مع الإنجليز يمكنه أن يحاكي الزاهد القديم في محاربته الشهوات والأهواء وملاذ الحياة بوسائل سلبية سلمية قاسية. وعزم على أن يعلم الهندي أن يقاوم المستعمر بسلاح سلبي سلمي، قد يعرضه للاضطهاد والتنكيل، ويتطلب منه إيماناً بالحق الذي يدافع عنه،

<<  <  ج:
ص:  >  >>