الجامحة، ومطاردة ما يساور النفس من وساوس وألم وحيرة، وإنما ينبع الشعر من الحب والألم، وما أحفل حياة الوثنيين والزنادقة بألم منبعه الحيرة، والفوارق بين الطبقات والتقاليد البالية التي لا يقبلها الأديب إذا قبلها البليد، وما أكثر دواعي الحب والهيام في حياة زمامها بيد العاطفة والوجدان، ولا قيود لها من فكر أو شريعة، ولا مجال للذة عندها إلا في الحياة الدنيا، ولا أمل لها في آخره، فراحت تستوفي حظها من النعيم، وتستمتع ما وسعها الاستمتاع بما في الدنيا من جمال وبهاء، منشدة قول الشاعر:
تمتع من شميم غرار نجد ... فما بعد العشية من غرار
أما المؤمن، فقد اشترى أخرته بدنياه، وجعل حياته الأولى مجازاً لحياته الثانية، ورأى في جمال الدنيا مفاتن يستدرج بها الشيطان الغاوين إلى مهاوي الجحيم، وهو مطمئن إلى السعادة في الأخرى إن فقد السعادة في الدنيا. وقد لاحظ هيرودوت من قبل عدم نبوغ الشعراء في مصر لخلو بيئتهم من الحب والألم.
٥ - أضف إلى ذلك أن الوثنيات إذ كانت لا تؤمن إلا بمتاع الدنيا، فتحت الباب على مصراعيه للاستمتاع بها، وتركت للإنسان إشباع شهواته منها، واستعانت على التمكن من القلوب بالتأثير على العاطفة، إذ كانت عاجزة عن البقاء باستعمال الفكر والمنطق، فأصبحت تربة خصبة لنمو الفنون الجميلة التي منها الشعر.
أما أديان التوحيد، فقد استعانت في انتشارها بالدليل والبرهان إذا كانت قادرة على ذلك، بل إن روح الإسلام يدعو إلى النظر والتفكير ويجافي الفنون الجميلة كلها من شعر وتصوير وتمثيل وغناء وموسيقى ونحت، وكان أتقياء المسلمين ينظرون إلى محترفيها نظرة استنكار قد تصل إلى المقاومة والمحاربة.
٦ - معلوم أن العواطف تنشأ في الفرد قبل نشوء الفكر، وأن عبادة آلهة متعددة تنشأ قبل عقيدة التوحيد، وأن الإنسان كلما تقدم خرج من حكم العاطفة إلى حكم الفكر، ومن عبادة الآلهة الكثيرة إلى عبادة الإله الواحد؛ ومثل ذلك تماماً في الأمم إذ يسبق عصرها الوثني عصر التوحيد فيكون مسايراً للعاطفة لا للفكر، حتى تصل الأمة إلى طور التفكير والإيمان، ولهذا يكون العهد الوثني معاصراً العهد العاطفي في الأمم، ولهذا أيضاً تجد شعر الشاعر الواحد في شبابه - أيام تأجج العاطفة - أقوى من شعره في شيخوخته عندما ينضج