للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

عنه المالك! فلما علمت بالأمر طلبت الأذن على وزير الداخلية، وكان يومئذ فؤاد باشا سراج الدين، وعرضت عليه القضية، فقال في لغة أنيقة ولهجة رقيقة: إن هذا الرجل من الأشقياء (الخطرين)، ولا أحب أن يشفع مثلك في مثله. فقلت له: يا باشا، إن الرجل من كرام قريتي، وأنا أعرفه كما أعرف أبناء أسرتي. فقال: وماذا أصنع في تقرير رسمي حققه المركز وأيدته المديرية واعتمدته الوزارة؟ فانصرفت حردان أسِفاً على الحق يدمغه تقرير باطل فيزهقه، وعلى العدل يصيبه تقرير جائر فيهلك. ويبقى المسكين في سجنه يقاسي ألم الجور وذل الاعتقال، حتى سقطت الوزارة القائمة، وألغيت العسكرية الحاكمة، فزالت عن الرجل في التوِّ صفات الإجرام، وخرج من معتقله إلى أهله بسلام!

وفُصل من وظيفته محضر شاب كان يعمل في محكمة (عنيبة) من مركز الدر، لأنه غاب عن مكان عمله خمسة عشر يوماً من غير إذن. وسبب غيابه أن المرض أدركه في آخر يوم من أيام أجازته السنوية، وكان يقضيها مع أسرته بالمنصورة، فطلب إجازة مرضية، فأباها عليه مفتش صغير كانت بينه وبينه خصومة، وقرر للرياسة أن الرجل صحيح البدن ولكنه مريض النية، فهو يأبى العودة إلى بلاد النوبة ويتمارض ليسعى. وصدق الكبير فأمره بالعودة إلى العمل بعد انقضاء الأجل، وكانت العلة شديدة والشقة بعيدة، فلم يدخل عنيبة إلا ليقرأ فصله، ويرجع بالشقاء والبؤس إلى أهله!

وقضى المسكين في العطَل أشهراً يطعم أطفاله الأربعة وأمهم بالدين، ويدفع الضر عنه وعنهم بالأمل، حتى عرضت بنفسي ظلامته على صاحب المعالي إبراهيم باشا عبد الهادي وكان يومئذ يتولى وزارة العدل بالنيابة، فاقتنع ببطلان تهمته، وأعاده إلى وظيفته بمرتبه ودرجته ومدته.

وقضى المسكين في العمل أشهراً يجاهد نصب العيش ويكابد وصب الداء حتى أودى به السُّلال على سرير موحش ووساد قلق. وكان في إدارة المستخدمين بوزارة العدل عصبة من صغار الموظفين تتجر بمنح العلاوات والدرجات، فينقضون المبرم ويبرمون المنقوض، والكبار من غير فطنة ولا علم يحلون ما عقدوا ويعقدون ما حلوا، فقررت هذه العصبة أن إعادة الموظف المرحوم إلى عمله بعد فصله كانت تعيينا من جديد يجبُّ أربعة عشر عاماً قضاها في الخدمة! وانتظرت العصابة من ورثة الميت المساومة؛ ولكن اليتامى

<<  <  ج:
ص:  >  >>