وقل مثل ذلك عن جيته في الأدب الألماني، وعن شوقي في الأدب المصري!
هذه بعض نماذج لعبقريات أغدقت عليها الحياة ففجر منها الإغداق ينابيع البيان المشرق، وعيون الحكمة الخالدة، وأنهار الفن الرفيع. . وتعال نستعرض بعد ذلك نماذج أخرى لعبقريات لم تلق من الحياة إلا صنوفاً من الفاقة وألوان من الحرمان، لنرى أن الأثر الذي خلفته هنا لا يقل عن الأثر الذي خلفته هناك. ولا نعني بالحرمان هنا ذلك الذي تعارف عليه الناس حين حصروه في معناه الضيق ولم يتعدوا به نطاق الماديات، كلا. وإنما نتعداه إلى شتى معانيه في نطاق الماديات والمعنويات. . . هناك حرمان يتمثل في ذلك الأعمى الذي لم تشأ له الحياة أن يرى ضوء النهار، وهناك حرمان يتمثل في ذلك الأصم الذي حالت المقادير بينه وبين الإنصات لموسيقي الطبيعة، وهناك حرمان يتمثل في ذلك المصدور الذي ينفث دماً ولا يعرف طعم العافية إلا من أفواه الناس، وهناك حرمان يتمثل في ذلك المجنون الذي قدر له أن يشرف على الوجود بإحساس الفكر التائه والوعي الذاهل!
نعم، هناك مِلتن يرسل أعذب أنغامه وأرق أغانيه وهو محروم من نعمة البصر، وهناك بيتهوفن يدفع إلى سمع الزمان بسحر موسيقاه وهو محروم من نعمة السمع، وهناك كيتس يبعث إلى الصدور بدفء أشعاره وهو صاحب الصدر المحطم الذي لون قصائده بلون دمائه، وهناك موباسان يخرج للدنيا من وراء العقل المفقود ومضات من العبقرية المبدعة قل أن تجد لها مثيلا عند فنان سواه. . .
وكم في رحاب الحرمان المادي من عبقريات أخرى لقيت من ضروب البؤس والشقاء ما يرفض منه الصبر وتخور معه العزائم ومع ذلك فقد كتب لآثارها كل بقاء وكل خلود. . . وما أشبهها بالمعادن الكريمة يصفو جوهرها تحت وهج النار في بوتقة الزمن!
تخرج من هذا كله بأن العبقريات معادن. . . بعضها يتوهج في ظلالها الترف والنعيم، وبعضها يتأجج في رحاب الفاقة والحرمان وبعضها يخبو بريقه إذا ما انتقل من حال إلى حال؛ فأديب مثل مكسيم جوركي كان يعاني أبشع ألوان البؤس الإنساني في أيام الحكم القيصري، ولكنه كان في تلك الأيام الحافلة بالشقاء مثلا رائعاً للفنان الملهم. . . ولقد بلغ من الفاقة حداً جعل الكاتب الإنجليزي ويلز يترك له كثيراً من ملابسه يوم كان يزور روسيا ليلقاه ويتحدث إليه؛ لقد ترك ملابسه للفنان الذي أعجب به كما لم يعجب بأحد سواه!