القسمة لم تحسم الخلاف، فقد تمسك كل منهما بأن يأخذ الجزء الذي فيه (افتتاحية) العدد. . . . وكانت موقعة أسمها (معركة الافتتاحية)، ويظهر أن الذي ظفر بهذا القسم غريم الديب، فقد كان له فالا حسناً، إذ صار بعد ذلك يكتب الأفتتاحيات!
وكان الديب يقضي حياته الخاصة في الظلام، يعاشر فيها أنواعاً منحرفة من أخس الآدميين، وكان ينفق على هؤلاء ومعهم ما يجمعه من هنا وهناك. فهو يبدأ الجولة بقصد إحدى القهوات الكبيرة، حيث يلقى بعض الأدباء والمياسير ممن يعطفون عليه، فيسمعهم من شعره، وقد يطرفهم بنوادر من شئونه الخاصة معرضاً القدم من الحذاء، وقد ينشد مدحته لأحد الجالسين؛ ثم يخرج عامر الجيب إلى حيث يفرغه في تلك البيئات المنحطة. . . ثم تنتهي الدورة بفترة البؤس الذي صنعه بتلك المقدمات!.
ولم يكن وفياً للمغدقين عليه، بل كان ينثني عليهم بالهجاء، بعد أن قدم المح على العطاء. . . . ومن غريب أمره أنه كان يهجو على قدر العطية. . وكان يعرف ذلك منه المرحوم أنطون الجميل باشا فكان لا يعطيه في المرة إلا (شلناً) ويقول: لا أريد أن أستكثر من الشتم! ولعل هذا هو الذي أوحى إليه نوعاً طفيفاً من المدح: بضعة أبيات لا يغالي بها في مدح الممدوح، وكان يسمى هذه المدائح (الشلنيات) نسبة إلى ما يرجوه من ورائها. وكان يطلق لسانه - حديثاً وشعراً - على كل من يحسن إليه، قيل له: أهج فلاناً. فقال: ولماذا أهجوه وهو لم يحسن إلي ولم يعطني شيئاً؟ ورآه اصحابه مرة مقبلا عليهم في تيه وكبرياء، فقالوا إنه لا بد أن يكون في جيبه - على الأقل - عشرة قروش. . . فلما سألوه في ذلك، قال: أني لي. . . وهل يترك معي كامل الشناوي شيئاً يا أستاذ!؟ والأستاذ كامل الشناوي معروف بعطفه عليه وأهتمامه بأمره. . . وشاهد بعض أصحابه في ثياب رثة، فقال أحدهم، وهو الأستاذ محمد مصطفى حمام: يعز علينا أن يكون الديب عاري الخلف، لا من (بنطلون) بل من (جلباب)، وتطل أصابع قدميه لا من (جزمة) بل من (بلغة)، فهلموا نواري سوأته. . . وأحضروا له ثياباً نظيفة وحذاء جيداً، فأخذها وذهب، وبعد برهة عاد إليهم مزهواً فيها، ونظر إليهم شزراً. . . ثم قال: ألا ترونني وجيهاً يا كلاب! ولم يكن يليق بهذا السؤال في هذه الحال إلا جواب واحد: بلى يا ذئب!
ولم يشذ الديب عن الجزاء الوفاق بهجاء من يحسن إليه، إلا مع معالي الأستاذ إبراهيم