للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

دسوقي أباظة باشا. قال لي الأستاذ محمد مصطفى حمام: مدح الديب دسوقي باشا بقصيدة جيدة منها:

ولو هيأ نمو للديب رزقاً ... لكان بحمدكم صلى وصاما

ومالي لا أرود حمى رحيباً ... تكنف حافظاً ورعى حماما

وصحبته إلى معاليه، فأنشده إياها، فأعطاه خمسة جنيهات (من جنيهات ما قبل الحرب)، وحقيبة كبيرة ملأى بالملابس، وأحاله إلى (الترزي) ليصنعها على قده. . . فكاد يجن من الفرح وراح يقارن بين حاتم الطائي وبين دسوقي باشا مقارنة أنتهى فيها إلى أن الأول أسطورة كاذبة والثاني حقيقة ماثلة. ووالى إنشاء المدائح فيه. ولكن (الذئبية) أدركته مرة، فقال أبياتاً أولها:

أبلغ أباظة عني أنهم ورثوا ... مالا ولم يرثوا ديناً ولا خلقا

وبلغت الأبيات دسوقي باشا، فأبتسم ثم استدعاه، ونفحه نفحة أخرى، وقال: إن يكن قد هجانا، فإني أكافئه على الشعر الجيد. فأستمر يمدحه بعد ذلك حتى كان آخر ما قاله من الشعر في مدحه، ولم يجازه الجزاء (الوفاق)!.

هذه هي الحقيقة في حياة عبد الحميد الديب كما يعرفها خلطاؤه لا كما يحلو لبعض الناس أن يصورها؛ فلم يكن البؤس يأتي إليه قدراً لا يد له فيه، وإنما كان هو يصنع البؤس صنعاً، كان يحصل على المال بتلك الوسائل ويبذره تبذيراً في أدنأ الوجوه، وفي أقذر البيئات، ثم يجوع ويعرى بصنعه. . . وكانت تعوزه الكرامة والأباء والعفة ليكون بائساً حقيقياً. وكان لا يتحرج من أية وسيلة للاستفادة المادية، ولا يتورع عن أية شتيمة، ولم ينج من هجوه أحد ممن عرف سواء أعطاه أم منعه. وقد صب جام هجائه على جميع الأدباء بقوله:

يا رجال الشعر والقول الرصين ... لعن الله أباكم أجمعين

أما الناعون على هذا الوطن جحدوه وإهماله النابغين من أبنائه فليلتمسوا المثال في غير عبد الحميد الديب، ويعفوا التاريخ من التزوير والتزييف.

وأما الذين يحبون أن يصوروا الأديب أو الفنان إنساناً منحى منفكا متحللا تائهاً شارداً. . . فليعفو الأدب والفن مما يحبون.

<<  <  ج:
ص:  >  >>