للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والرادار والتليفزيون والبنسلين أنهم أحسن بكثير من السلف، وإنه لا داع بعد اليوم للتعلق بأهداب أعمالهم، وهذا راجع ولا شك إلى ما أحدثته الحرب الأخيرة - وكذلك الحرب التي قبلها - من قلق واضطراب وتعلق بالماديات لم يعهد له مثيل في سابق العصور، حتى في بلاد الشرق التي لم تدر فيها المعارك الحاسمة!.

وأراه مناسباً في هذا المقام أن أبين في كل اقتضاب السباب التي من أجلها لا يزال الفن الإغريقي سيد الفنون جميعاً. فنحن معشر المصريين لم يبلغ تقديرنا للفن مبلغ تقديرنا للشعر والأدب والفلسفة، ذلك لأن لنا في مجال الشعر والأدب والفلسفة إنتاجا قومياً عرف قدره في الشرق كله وفي معظم البلاد الأوربية، أما في الفن، فإن جهودنا ضئيلة تكاد لا تذكر، ولعل المقارنة بين الفن المصري القديم وبين ما ننتجه الآن يحقق هذا القول.

ومهما يكن من شئ؛ فإن المقرر أنه لولا ما للفن الإغريقي من التأثير المتواصل لما ارتفع الفن كثيراً في كل أنحاء الأرض عن مستوى الفن الهندي أو الصيني أو الفارسي.

ففي المائة السنة السابقة على حروب الفرس التي وقعت بين عامي ٥٠٠، ٤٨٠ ق. م. كانت بلاد الإغريق بقسميها الأيوني والدوري أشبه شئ بشجرة أنبتت أغصاناً ناضرة انبعثت في نواحيها المتباينة، وما أنبثق فجر القرن التالي لتلك الحروب، حتى جاء هذا الغرس بأطيب الثمرات، وأخرج لنا الأغارقة الآيات البينات، التي ظلت حتى اليوم المثال الذي يحتذى به الإنسان، والأفق العظيم الذي يمكن للعقلالبشري الوصول اليه!

والميزة الكبرى في الفن الإغريقي أنه فن بسيط متوازن في تناسق، يحاكي الطبيعة ويستلهمها في طموح مستمر نحو الكمال، فهو فن إنساني بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان.

وإذا كنت قد كتبت على صفحات الرسالة منذ عشر سنوات عن نواح مختلفة في الفن الإغريقي؛ فإني أكتب اليوم ولا زلت مصراً على ألا أبدأ إلا به.

نعم كان في مصر فن وفي بابل وآشور فن، وكذلك في كريت، ولكنه لم يكن إنسانياً بالمعنى الذي نفهمه من هذه الكلمة؛ ذلك لأن فناني مصر وبابل وآشور وكريت أنصرف اهتمامهم نحو تصوير عبادة الآلهة وتصوير الحروبوالحياة البيتية والزراعية، أما الصور الإنسانية بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان كما قلت، فإنها لم تأت فيما ذكرت إلا رموزاً

<<  <  ج:
ص:  >  >>