عدوه الى شفاعة ولم يخجل من المعذرة إليه لم يشم رائحة الفتوة) ومعنى هذا القول أن من أساء إليك ونالك ضرره، إذا علم أنك متألم مما وقع منه، أحتاج إلى أن يتقدم إليك معتذراً، أو يلجأ إلى شفيع يشفع له عندك ليزيل ما في قلبك من كدر، ويغسل ما علق به من زعل. فالفتوة كل الفتوة أن لا تظهر له العتب. ولا تغير ما كان منك له قبل الذي صدر منه، ولا تحول عنه وجهك حتى لا تحوجه إلى طلب الصفح والشفاعة؛ وأن لم تفعل ذلك وتخجل من قيامه بين يديك مقام الذلة والاعتذار لم يكن لك من الفتوة أوفي نصيب.
فالفتى الحق من تغاضى عن عثرة غيره ولم يأخذه بذنب أتاه أو جرم أقترفه، بل يجب أن يكون معه سمحا كريما يعامله معاملة صادرة عن سماحة خلق وطيبة نفس وانشراح صدر، ولا عن ضيق وكظم غيظ ومصايرة، لأن هذا يعتبر تكلفاً وتصنيعاً يوشك أن يزول وتبدو الأخلاق واضحة، وتظهر الصفات جلية فيفتضح أمره بين الناس، فإن التخلق يأتي دونه الخلق.
والمقصود من هذا أن يصلح الفتى باطنه كما يجمل ظاهره، وأن ينفي نفسه من الشوائب كما ينظف ثوبه من الأقذار. كان بعض أصحاب شيخ الإسلام أبن تيمية رضى الله عنه يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه، ما رأيته يحمل حقداً لأحد منهم قط، وما سمعته يدعو على أحدهم، بل كان يدعو لهم ويطلب لهم من الله العفو والغفران. ثم قال: جئته يوماً أبشره بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأكثرهم إيذاء له، فنهرني وتنكر لي وأشاح عني واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت الميت فعزى أهله وقال لهم: أنا لكم مكانة، لا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة أو عون إلا ساعدتكم فيه وعاونتكم عليه، ونحو هذا الكلام، فسروا به ودعوا له وأعظموا هذه الحال منه. ولما سمع أحد المتصوفين بخبر هذه الواقعة قال:(خير الفتيان من كانت له في هذا أسوة وبه قدوة).