ينسى صناعه والله يظهرها ... إن الجميل إذا أخفيته ظهرا
المنزلة الثانية هي منزلة الإحسان إلى الغير، وهي أعلى مرتبة من الأولى، لأنها تلزم المتحلي بها أن يقرب من أقصاه عن مجلسه وطرده من حضرته، وأن يحسن إلى من أساء إليه ويكرم من أهانه ويعتذر إلى من أعتدى عليه، ولا يتصف صاحب هذه الفعال بصفة الفتوة إلا إذا كانت فعالة هذه عن تواد وسماحة لا عن مصابرة وكظم، وعن قوة وقدرة لا عن جبن وضعف، وفضلوا هذه المنزلة علىسابقتها، لأنها تتضمن التغلب على عدوين، النفس ومقابلة الشيء بضده، فيكون خلق الفتى الإحسان والعفو، وخلق غيره الإساءة والإيذاء، وفي هذا قال قائلهم.
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم ... وتذنبون فنأتيكم فنعتذر
حكي أن رجلاً من حجاج بيت الله ذهب لزيارة القبر الشريف ونام في المدينة ففقد مالا له، فلما صحا من نومه فزع لضياعه، ووجد جعفر بن محمد قريباً منه فعلق به وقال به: أخذت مالي! فقال: كم هو؟ قال: ألف دينار. فأخذه جعفر حتى أدخله داره ووزن له قدر ماله. ثم إن الرجل عثر على ماله، فعاد إلى جعفر يرد له المال ويعتذر عما صدر منه، فأبى جعفر أن يقبله منه، وقال: من هذا؟ فأخبره أنه جعفر بن محمد رضى الله عنه فقال: إنه خير الفتيان. ثم قيل لجعفر: كيف تعتذر لمن جنى عليك، وتحسن إلى من أساء إليك، ولم يصدر منك ما يوجب الاعتذار. ألم يكن كافياً أنك لم تؤاخذه؟ ألست باعتذارك إليه أنزلت نفسك منزلة الجاني لا المجني عليه، والجاني خليق بالعذر. فقال لهم:(وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير).
فهو يعزو ما أصابه إلى ذنب منه وأن هذا هو الانتقام الإلهي الذي يجب أن يناله كل مذنب. ومن كانت هذه حاله فهو بالاعتذار أولي وأحق اليّ من جني عليه، وشكره والإحسان اليه. فمن كانت هذه حالة مع من أساء إليه عفا عنه وأحسن إليه مع ضعفه وفقره وحاجته إلى سواه، فبأعظم من هذا يكافئه الفتى الذي وسع ملكه السموات والارض وشمل إحسانه المؤمن والكافر والطائع والعاصي، فيعفو عن إساءته كما عفا عن إساءة عبده، فالجزاء من جنس العمل.
وقال أبن عياض رحمه الله (الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان) وقال غيره (من أحوج