للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

العالم باقتباس رواياتهم أو موضوعات تاريخهم، واستعان المقلدون من كتاب الفرنج بالوهم المسرحي على تمثيل العادات والعبارات، فظهرت مقتبسات ميروب وأوديب وإيفجيني وأورست لراسين وفولتير على المسرح الفرنسي، أقوى وأروع وأبدع مما ظهرت به لوربيذس وسوفوكليس على مسرح أثينا.

والذي حمل الإغريق ومن لف لفهم على الأخذ بمذهب القضاء والقدر في الرواية أنه أشد تأثيراً وأقوى فجيعة. فإنك لا تجد أبعث للرعب وأدعى إلى الرحمة من رجل يعميه القدر فتسيره قوة غير قوته، وتسخره مشيئة غير مشيئته، وتعبث به إرادة متحكمة غير إرادته، ثم تراه يجهد عبثاً في الفرار من جريمة تراصده، أو النجاء من مصيبة تطارده. وذلك هو مذهب الرواقيين الذي لخصه (سنيكا) في هذه الجملة:

(إن القدر يقود ذوي الإرادة ولكنه يجر فاقديها) ذلك فضلاً عن موافقه هذا المذهب لمسرحهم وعبادتهم وسياستهم وعادتهم مما لا نجد داعياً لشرحه وتفصيله.

مذهب المحدثين: على أن القدماء كان لهم بجانب مذهب القدر الذي أملاه عليهم الدين والتاريخ والإقليم مذهب آخر هو مذهب النفس والهوى، ولكنهم أغفلوه إما لضعف تأثير وإما لعدم انطباقه على نظام مسرحهم في سعته وشكله ووسيلته، حتى جاء المحدثون وأولهم كرني أبو المأساة الحديثة، فأخذوا به وساروا عليه، وجعلوا المأساة صورة لمصائب الرجل الخاضع لهواه، لا لمصائب الرجل الطائع لحظه؛ وأصبح الرجل الحر الذي يخضع لإله عادل يسمح بالشر ولا يأمر به، ويتعرض لأرزاء الدهر بسبب أهوائه وأهواء غيره، موضوع المأساة الحديثة وينبوع الأثر المروع الموجع الذي يأخذ بأذهاننا ووجداننا. ومزايا هذا المذهب هو أنه أخصب إنتاجاً لاستمداده من ينابيع القلب البشري الفياضة، وأتم شمولاً لتحليله الإنسان في كل زمان ومكان دون الاقتصار على شعب معين وتاريخ معين؛ وهو مع ذلك أبلغ حكمة وأتم ملائمة للمسرح الحديث، وأروع جمالاً في التمثيل العصري. ولولا الخوف من أن يسأم القارئ من تفصيل قد لا يعنيه لأفضت في شرح هذه المزايا واحدة فواحدة، ولكن فيما ذكرته غناء للقارئ المستفيد. وأما عمل المأساة وصفاته كالإمكانية، والوحدة والجاذبية والتأثير والمغزى، وأجزاؤه الأساسية كالعرض والتعقيد والحل وما إلى ذلك من الانقلاب والتعرف والأسلوب، فقد سبق القول فيه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>