يلذ لهم أن يستشعروا الرعب والرحمة من سماع الحكايات المروعة المؤثرة. يظهر أن منشأ هذه اللذة فينا عند مشاهدة المنظر الفاجع هو ميلنا الغريزي إلى تمرين قوانا الجسمية والنفسية، وما يحدثه ذلك الميل في نفوسنا من قوة الشعور بحيويتنا وعقليتنا وحساستنا وقدرتنا على العمل والتصرف. وما الأمن الذي نشعر به عند شهود هذه الفجيعة إلا شرط ضروري لإحداث منظرها تلك اللذة لا مسبب لها. وذلك التمرين الطبيعي هو علة ما نجد في الطفل من شرهٍ إلى سماع الخوارق التي ترعبه، والحوادث التي ترهبه. وهو كذلك سبب ما نرى من سعي العامة والسوقة إلى الساحة التي كان يشنق فيها المجرمون أيام كان الشنق علنياً، وهو السبب أيضاً في ميل الأمم الغليظة أو القوية إلى صراع الثيران وأناشيد الحماسة، وميل الأمم الرقيقة أو الضعيفة إلى تمثيل العواطف وقصائد الغزل.
أما السبب في جعل الجاذبية المزدوجة من الرعب والرحمة أساس المأساة وروحها، فهو ما لهاتين العاطفتين دون سائر العواطف من التدرج مع الحادث، والترقي مع الخطر، والأخذ بمجامع القلب شيئاً فشيئاً إلى أن يبلغا الغاية عند انتهاء العمل. أما عواطف الحماس والفرح مثلاً فإنها تنشأ بقوة ثم تضمحل بسرعة.
موضوع المأساة: يقع الرجل في التهلكة والبؤس لأسباب خارجة عنه؛ أو صادرة منه. فالأولى تنشأ من حظه وموقفه وواجباته وعلاقاته، ومن صروف الحياة وأحكام الآلهة، وأفاعيل الطبيعة وأضاليل الناس. وأفجع هذه الأسباب وأوجعها ما دهمت البائس من مأمنه، وأتته ممن لا يتوقع منهم إلا الخير والنفع. والأخرى تنشأ من ضعفه وغفلته وميوله وأهوائه ورذائله، وقد تأتيه أحياناً من فضائله. وأسباب الهوى المقرون بطيبة القلب وسلامة النية، هي أقوى الأسباب تأثيراً وأكثرها خصوبة وأروعها حكمة. ومن هذا الفرق بين الأسباب الداخلية والخارجية نشأ للمأساة مذهبان: مذهب القدماء أو مذهب القضاء والقدر، ومذهب المحدثين أو مذهب النفس والهوى.
مذهب القدماء: فأما مذهب القدماء أو الإغريق بتعبير أصح فيعزو مصائب الأشخاص دائماً إلى سبب خارج عن إرادتهم، حتى لو اتفق أن حدث لهم ما يكرهون بسبب غفلتهم أو ضعفهم أو ميلهم كأوديب وهيكوب مثلاً حرص الكاتب على أن يخلق لهذه الأسباب أسباباً أولى كمشيئة القدر وغضب الآلهة. ولقد انتقل مذهب الإغريق إلى من خلفهم من كتاب