غير أنه مما لا شك فيه أن مذهب الشيعة قد اختفى تدريسه من الأزهر يوم قضى صلاح الدين على الخلافة الفاطمية، وأبطل الخطبة من الجامع الأزهر، ذلك أنه قلد وظيفة القضاء صدر الدين بن درباس، وهو شافعي، فعمل بمقتضى مذهبه، وهو امتناع إقامة خطبتين في بلد واحد؛ فأبطل الخطبة من الجامعالأزهر وأقرها بالجامع الحاكمي لكونه أوسع، والظاهر أن ذلك لم يكن إلا تبريراً لما أراده صلاح الدين من إهمال أمر الأزهر وصرف عناية الناس عنه، لأنه أقدم موطن لنشر دعوة الشيعة في البلاد، ولولا ذلك لأمكنه أن يجمع فيه مرة وفي الجامع الحاكمي أخرى، ولكن إهمال الأزهر كان خطه رسمها صلاح الدين وخلفاؤه من بعده، فأنشئوا المدارس المختلفة التي نافسته، وأقبل عليها المدرسون أكثر من إقبالهم على الأزهر، لكثرة ما تدره هذه المدارس وطلبتها، ولما كانت تظفر به من رعاية أولى الأمر؛ ولكن التدريس لم ينقطع من الجامع الأزهر برغم انقطاع خطبة الجمعة فيه، وإهمال السلاطين أمره، وها هو ذا عبد اللطيف البغدادي يأتي إليه في عصر العادل ويتردد عليه عشر سنين، مستمعا إلى الأساتذة المحاضرين حيناً، وقائما بتدريس الطب والفلسفة والمنطق طرفي النهار وحينا آخر.
وظل الجامع مهملاً من سلاطين الدولة، والجمعة فيه معطلة زهاء مائة عام إلى أن سيكون بجواره الأمير عز الدين أيدمر الحلي نائب السلطنة في عهد بيبرس، فانتزع كثيرا من أوقاف الجامع كانت مغصوبة بيد جماعه، وتبرع له، وأصلحه وأقام فيه منبراً، وأذن القاضي الحنفي بإعادة الخطبة فيه، فأعيدت يوم الجمعة ١٨ ربيع الآخر سنة ٦٦٥هـ، وعمل الأمير فيه مقصورة رتب فيها مدرسا وجماعة من الفقهاء على مذهب الشافعي، ورتب محدثا يسمع الحديث النبوي والرقائق، ورتب سبعة لقراءة القرآن، ووقف على ذلك أوقافا دارة تكفيه، ولم يلتث الأوهر أ، ظفر بمكانة سامية يدل عليها أن الذي تولى أمر خطابته في عهد المنصور قلاوون وابنه هو عبد الرحمن ابن بنت الأعز، قاضي قضاة الشافعية، ومن بعده كذلك محمد بن إبراهيم بن جماعة، وذاع صيت الأزهر منذ ذلك الحين، وأصبح معهدا علمياً معهداً علميا يؤمه الناس من كل فج، ولقى الأزهر من العناية الشئ الكثير، وزاد في مجده أن عزوات المغول في المشرق فضت على معاهد العلم فيه، وأن الإسلام أصابه في المغرب من التفكك والانحلال ما أدى إلى دمار مدارسه الزاهية.