سئل أحدهم عن ذلك فقال: لو أن رجلا بعث لك رسولا يدعوك إلى داره فقلت للرسول: لا أقوم معك حتى تقيم الدليل على وجود من بعثك، وأنه مطاع في أهله وأنه أهل لأن يقصد ويغشى بابه، لكنت في الفتوة دعيا) فكيف تطلب الدليل على ن وجوده ووحدانيته وقدرته وربوبيته أظهر من كل دليل تطلبه، وأقوى من كل برهان تستدل به، فما من دليل يطلب للاستدلال عليه إلا ووحدانيته وكماله وعفوه وإحسانه اظهر من كل دليل. فأبعد الناس عن الفتوة من طلب الدليل على من هو دليل على نفسه.
وليس يصح في الأذهان شئ ... إذا احتاج النهار إلى دليل
فالسالك الصادق صاحب اليقين الذي وهبه الله نور البصيرة وكشفه له عن جوهر الحقيقة لا يحتاج إلى دليل، لأن تقيده بالدليل يفرق عزمة قلبه، وهذا انقطاع وخروج عن الفتوة، وفي هذا قالوا: إن الدليل يفرق والمدلول يجمع، فالسالك يقصد الجمعية على المدلول، فما له ولتفرقة الدليل. وشبهوا المتقيد في سلوكه بالدليل بالمتكلم الذي يغنى حياته بحثا في الزمان والمكان والجوهر والأعراض، ويقصر همه على هذه الأشياء لا يتجاوزها للوصول منها إلى خالق الكون وعبوديته وتقرير وحدانيته بمقتضى أسمائه وصفاته، لا يشتغل قلبه بسواه ولا يطلب دليلا على من هو أقوى دليل، قال الحلاج:(إن المتكلم مستغرق في معرفة حقيقة الزمان والمكان، والعارف قد ضن بالزمان أن يذهب ضائعا في غير السير إلى رب الزمان والمكان).
والأمر الثاني: أن تكون وجهة الفتى صادقة، وإجابته لداعي الحق خالصة، لا يشوب محبته يعوض، ولا يطلب من الحظوظ غير الاستغراق في محبة معبوده والفناء في ذاته؛ فإن فعل ذلك فقد نال كل حظ وفاز بكل عوض كما في الأثر الإلهي:
(ابن آدم اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شئ، وإن فتك فاتك كل شئ. أنا أحب إليك من كل شئ).
فالفتى من يعبد ربه حق العبودية لا يطلب منه أحرا على إخلاصه، فإذا طلب العبد من سيده أجرا على قيامه بخدمته له سقط من عين سيده وصار عنده أحمق يستوجب العقوبة؛ إذا أن عبوديته تقتضي خدمته، والذي يخدم بالأجر لا عبودية للمخدوم عليه، ولا بمكان لسيده عنده؛ وهذا إما أن يكون حرا سيده انسه أو مملوكا لسواه.