للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

سال رجل جعفر الصادق رضى الله عنه عن الفتوة، فقال له ما تقول أنت؟ فقال الرجل إن أعطيت شكرت وإن منعت صبرت فقال جعفر: الكلاب عندنا كذلك. فقال له السائل: يا ابن رسول الله فما الفتوة عندكم؟ قال له: إن أعطينا آثرنا، وإن منعنا أو ابتلينا صبرنا) وقال آخر: (الفتوة هي إظهار النعمة وإسرار المحنة).

أما الأمر الثالث من هذه المنزلة: فهو إعراض الفتى عن نفسه وعدم انشغاله بها، وإهماله مطالبها، وإذلالها في سبيل الوصول إلى مقصودة الأسمى وغرضه الأعلى وأن يتهمها دائما بالتقصير وبأنها العائق في طريق وصوله، فيخاصمها في الله فيكون كما قال محمد بن علي الترمذي: (أن تكون خصمك لربك على نفسك) فيضعها دائما موضع التهم ليطامن من كبريائها ويحطن هذا الصنم الذي بينه وبين ربه ليصفو قلبه ولا ينشغل بسوى حبه والفناء في حضرته. قال الجنيد: (الفتوة كسر الصنم الذي بينك وبين الله تعالى، وهو نفسك) كما قال عمرو بن عثمان المكي (حرون خداعة رواغة فاحذرها وسقها بتهديد وخوف يتم لك ما تريد).

وقد حكى الله سبحانه وتعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه كسر الأصنام لله إذ جعلهم جذاذا، فانفتى من كسر صنماواحداً في الله. وقد قيل (الفتوة ألا تكون خصما لأحد) وذلك فيما يتعلق بحقوق العباد، أما في حقوق الله وابتغاء مرضاته، فالفتوة أن تكون خصما لكل ما سواه وإن كان الحبيب المصافي، فالسائر إلى المحبوب لا يقف مع حظوظ النفس، بل يفنى ذاته في ذات من أحب لأن طريق السالكين والفتوة السائرين على دروب الغناء، الخروج عن نفسهم فضلا عن حظوظها، لأن الفتوة، العمل على أن يكون الفتى بالله لا بنفسه، والرضى بأحكامه ساءته أم سرته. والخروج عن النفس، هو حبسها على مراد الله وبذلها في أقامه دينه وتنفيذه بين أهل المعارضة والبغي والعتاد، يصيح فيهم بالنصائح جهارا لا تأخذه في جهادهم في الله لومة لأئم؛ وهذا تعذيب للنفس في حب اله وإفنائها في ذاته، وهذا عند الفتى الصادق أعظم العيش وأغر الحظ.

ولو ذهبنا نتقصى أقوال القوم في الفتوة ونحللها لطال المقام وتشعب بنا الأمر فنكتفي بهذا القدر. ونسأل الله التوفيق، وللأستاذ ضياء الدخيلي من الله حسن الجزاء ومنا وافر الشكر.

(أسيوط)

<<  <  ج:
ص:  >  >>