ومن ادق ما صوره لنا الأستاذ ويجال في كلامه عن الاسكندر السنة الأخيرة من حكمه، فقد أحصى المؤلف على الاسكندر حركاته وسكناته، وساعاته ولحظاته، وأورد لنا نصوصا من خطبه في جنده المتمرد، وكيف تمكن بلباقته وحسن أدائه وسرعة خاطره من كبح جماحهم دون أن يذلهم، وكيف كان الرجل صاحب فكرة، فسلم يكن فاتحا تدفعه شهوة الفتح، ولم يكن ملكا يبغي الملك ويعشق السلطان، بل كان هذا وكان بدين بمبدأ الأخوة العالية والاندماج العنصري بين الشرق والغرب فاعد لجنوده حفلا كبيرا لتزويجهم من الفارسيات بالجملة، واتخذ له بطانة من قادة السيف والعلم من الفرس وقربهم إلى نفس فقرب إلى نفوسهم، واحبهم فعظم إخلاصهم له مما احقد عليه أجناده المقدونيون.
ويحدثنا المؤلف عن بناء الاسكندر لأسطوله العظيم في ثغور المشرق ليدور به حول أفريقيا ويعود من بوغار جبل طارق إلى الإسكندرية، فيكون قد كشف ما خفي من أقاليم العالم، ويتم له توحيدها تحت تاجه. وكان الأسطول يرقب يوم السفر حينما أصيب الاسكندر بالحمى - لعلها الملاريا - وألحت عليه العلة وهو يصارعها بما جبل عليه من حب الصراع. إلا أن الاسكندر قد رقد ولم يطل رقاده اكثر من ثلاثة أيام ودع بعدها الدنيا وهو اكثر ما يكون شبابا وحيوية وأملا في إقرار عدل عالمي، ما أحوجنا اليوم قبس منه. . .
والكتاب بحث من البحوث العلمية الدسمة، فهو لا يترك شاردة ولا واردة من حياة الاسكندر إلا أحصاها، وينقد المراجع القديمة والحديثة نقدا علميا منزها ويخرج بالقارئ برأي المؤلف واضحا لا غموض فيه، وهو كتاب تاريخ لمن يحب التاريخ، وكتاب أدب لمن يعشق الأدب، وصفحة بطولة ومجد وفخار تهوى إليها كل الأفئدة.