هناك صورة تامة لفن الأمير تكون في وسط هذا المهرجان تمثالا فيه الجمال والجلال، ولكن فيه كذلك الصفات الطبيعية الأخرى التي يريدها الخالق الكامل للمخلوق الناقص. فقال شوقي بصوته الخفيض وابتسامته الوديعة: يظهر أنك لا تقرأ ما بين السطور ولا تعرف ما وراء الستور. فقلت له: ربما!
ووقفت بنا سيارته على (كرمة ابن هانئ)، وكانت ليلتئذ تتلألأ بالنور والسرور، وتزدان بالزهور والحضور. فأصاب القوم ما شاءوا من مرئ الطعام وهنئ الشراب، ثم تجمعوا زمرا فوق أرائك وكراسي الردهة، يستمعون إلى الملحن الناشئ والمغني الحدث محمد عبد الوهاب وهو يغني بصوته الرخيم الخافت (أنا أنطونيو وأنطونيوا أنا). وكان شوقي آنس الله وحشته يؤثرني بالرعاية ويخصني بالحديث، شأنك مع الصديق الجديد والزائر المحتشم.
وفي أصيل اليوم التالي بعث إلى بسيارته الفخمة تحملني إلى داره؛ وكانت الدار حين دخلتها ساكنة كالصومعة، رهيبة كالمعبد؛ فمن رآها ليلة الأمس ثم رآها عصرية اليوم تذكر حال السكران الطافح ترنحه الخمر فيعربد، ثم يهوده الخمار فينام.
كان شوقي جالسا في ركن من الشرفة ومعه على المائدة الصغيرة حافظ وعبد المطلب وحنفي محمود، فلما أخذت موضعي من المجلس قال شوقي إنما دعانا هذا الوضع من اختلاف السن والذوق والثقافة لنقرأ تونيته التي نظمها للمهرجان. وأخذ حافظ يقرأ القصيدة فنقف عند كل بيت، ننظر في سياقه وموسيقاه، ثم نروي في معانيه وألفاظه، فربما استبدلنا لفظا بلفظ، وآثرنا عبارة على عبارة، وذوق الشاعر العبقري من وراء أذواقنا جميعا، ينقد ويوازن ويفاضل ويختار، حتى استوى القصيدة على فنه الرفيع منضد اللفظ نقي المستشف. وأردنا بعد ذلك أن نسمع حافظا، يرد الله بالرحمة ثراه، فاعتل بعلة لا أذكرها؛ ولكنه رأى من خلال المناقشة تجانسا بين ذوقي وذوقه فسألني أن أصحبه في العودة. وفي قهوة بميدان الأبرا كانت موضع ملهى (بديعة) اليوم، جلست أنا وحافظ رأسا إلى رأس، يقول في شوقي وأسمع، رويفتن في النكات وأضحك، حتى قال: سأنشدك قصيدتي لترى فيها رأيك. وأخذ شاعر النيل يقرأ لي عينيته المشهورة بصوته الفخم وإلقائه المعبر حتى فرغ منها؛ ثم نظر إلى نظر المستفهم المطمئن المعجب، فقلت له: هنيئا لك التصفيق الحاد