والاستعادة المتكررة يا حافظ! قصيدة شوقي للقراءة وقصيدتك للسماع، ومعانيه للخاصة ومعانيك للجمهور! فقال في لهجته الساخرة الفكهة: وهي يعنيني غير الجمهور؟
توالى اللقاء بيني وبين شوقي بعد ذلك اليوم، مرة في داره، ومرارا في (صولت). وكان كلما أنشأ عبقرية من عبقرياته أقرأني إياها؛ وذلك في جميع أطوار عمره: يعرض ما يقرض على الآذان المتباينة والأذهان المتفاوتة ليعلم موقعه من كل ذوق، وأثره في كل نفس. وكان أشد ما مكن الألفة بيني وبينه مشابه في الطبع من فرط الحياء، وحب العزلة، وقلة الكلام، والانقباض في الندى الحافل، والابتعاد عن الحفل الجامع؛ فكأني كلا منا كان يرى في الآخر عزاء عن نقصه وعوضا من حرماته.
كان شوقي يرى كأكثر الناس أن الرجل إذا لم يعمل في الحكومة كان أشبه بالمتشرد. لذلك كان قلقا على من هذه الناحية، فهو يستكبرني على العمل الحر، ويعجب ألا يكون لي مكان في وزارة المعارف. ثم أخذ يسعى من وراء علمي لدى وزير المعارف علي الشمسي باشا ويمهد لي السبيل للقائه. وفي ذات ليلة من لياليه قال لي ونحن في ركن من أركان صولت: سأنتظرك غداً هنا في الساعة الحادية عشرة، فتعال ومعك مجموعة من كتبك لنزور وزير المعارف: فقلت له: وما شأني بوزير المعارف؟ فقال إنه يود أن يراك، ولعل من الخير أن تراه. فلما دخلنا على الوزير في الموعد الموقوت قدمني وكتبي إليه، فسلم الرجل تسليم البشاشة، وشكر شكران الغبطة. وجرى في حضرته حديث عني استجاز شوقي فيه ما لا يجوز إلا للشاعر من المبالغة في المدح والمجاملة في الثناء. ولما خرجنا من عنده ربت على كتفي وقال وهو مبتهج: لقدوعدني الوزير أن يضمك إلى الوزارة! فقلت له ولم أدهش لأني حزرت ذلك من قبل: ألهذا جشمت نفسك يا سيدي ونفسي؟ حد الله ما بيني وبين الحكومة! لقد حاول هذه المحاولة منذ أربع سنين طاهر باشا نور وعبد الفتاح باشا صبري فجذبت عناني من يديهما ومضيت. وأراد صديقي طه حسين وأستاذي لطفي السيد أن يدخلاني الجامعة منذ سنتين فلذت بالفرار بعد صدور القرار. أنا يا سيدي أستاذ في الجامعة الأمريكية، مرتبي ضخم ومكاني مرفوع ورأي مسموع وحريتي مطلقة. فهل نافعي ان أدع الطريق الذي قطعت أكثره إلى طريق أبدأ من جديد، وأن أعمد إلى رجلي الطليقتين فأضعهما في قيد من حديد؟