منها إلى باب المديح أو الشعر الذهبي. وهذا هو الفن الشعري الجديد الذي ولده البوصيري في الشعر العربي، فكان بذلك فذا بين شعراء المديح النبوي من لدن الأعشى وكعب وحسان ومن بعدهم.
ونزعة الحب التي نلمسها في نفس البوصيري تفسر لنا في يسر وسهولة تلك الأوصاف التي تشهدها في ثنايا البردة وغيرها، يقدس بها الرسول، ويضفي عليههالات من السمو، وبخاصة إذا قرن اسم الكريم باسم غيره من أنبياء وملائكة، وقد يعيبها عليه بعض النقاد ويعتبرونها مبالغات لا داعي إليها، بينما هي في قرارة نفس الشاعر، أضيق الألفاظ وأيسر الأساليب التي تعبر عما فيها من إحساس صادق وشعور دافق، هو وليد الحب الخالص الصراح الذي لا شائبة فيه. فقدسه المحبوب والتسامي به. أبسط مظاهر الحب الصادق.
لم يكن البوصيري - فيما اعتقد - شاعراً طماحاً إلى الشهرة يسعى إليها عن طريق شعره، ولذلك لم يتكسب به، ولم يسع إلى باب من أبواب الرؤساء. وكذلك لم يكن يعنيه أن يكون شعره جيداً بديع النظم رائع الأسلوب، بقدر ما كان يعنيه أن يكون صدى لما في نفسه، ورجعا لهجسات فؤاده. فأغلب شعره شعر شخصي يسجل خواطره الشاعر وأحاسيسه النفسية. وقد خرج البوصيري مرة عن طبيعته، فنظم قصيدة غزلية وروى حكاية له مع جارية حسناء، فدل ما فيها من الغزل الساذج وحيله البدائية، على أن الرجل مقلد في غزله، أن الغزل ليس أصيلا في نفسه. - أما غزله النبوي وبخاصة في البردة، فإن شخصيته تبدو فيه ناطقة وثابة في كل بيت. فالبردة منظومة نفسية حاشت بها نفس الشاعر في الباطن، وعلق عليها آمالا، قبل أن يتحرك بها لسانه ويجنح إليها في الظاهر - وهذا أيضاً يفسر لنا الرؤى التي رآها البوصيري وأصحابه، متصلة بها هذا الرجل أن يعالج نفسه من فالجه الذي أصابه. فإنه لما حار في علاجه فكر في نظم قصيدة نبوية، يستشفع بها الله أن يعافيه. فنظمها وكرر إنشادها ثم بكى ودعا وتوسل ونام، فرأى النبي عليه الصلاة والسلام في نومه فمسح بيده المباركة على مكان دائه، وألقى عليه (بردة) فانتبه من نومه وفيه نهضة وأحس بالشفاء.
ونحن لا نرتاب في صحة الأحاديث النبوية المتصلة برؤيته الشريفة، فقد روى البخاري عن أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال: (تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي، ومن رآني في