المنام فقد رآني حقا، فإن الشيطان لا يتمثل على صورتي، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار). وبعد فهل كان البوصيري كاذبا في دعوى الرؤيا؟ هذه مسألة يخشى من ينصف نفسه أن يجازف بالحكم فيها على غير ظاهرها، وبخاصة أن البوصيري يعلم أن من كذب على النبي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار.
ليس هناك ما يمنع البوصيري من أن يرى النبي في نومه، وليس هناك كذلك ما يمنع من أن يشفى من فالجه بسبب قصيدته؛ وقصيدة البردة - وبعضهم يسميها البرءة - لا تشفى ولا تبرئ من سقم. فالله سبحانه وحده واهب البرء والشفاء. ولكن إذا اخلص مريض النية، واتجه إلى الله بقلب مؤمن ودعاه واستشفع بالنبي عليه السلام، أو بتلاوة القرآن، أو قراءة البردة او نحوها، فليس هناك ما يمنع أن الله يستجيب الدعاء. والمريض في حاجة قصوى إلى مثل هذه المعنوية يعين بها طبيبه على علاجه.
وأطلق لفظ (البردة) على قصيدة البوصيري، لما لابس نظمها والاستشفاع بها من ذكر بردة النبي عليه السلام. وقد روى أن الصاحب بهاء الدين بن حنا - وكان صديقا للبوصيري - أحتفظ نسخة من القصيدة لديه. ثم أصيب سعد الدين الفراارقي برمد اشرف منه على العمى، فرآى في المنام هاتفا يدعوه إلى الصاحب بهاء الدين ليأخذ منه (البردة) ويضعها على عينيه فيشفى بإذن الله، فذهب إلى الصاحب وطلب منه (البردة)، فقال له الصاحب (ما أعرف عندي من أثر النبي صلى الله عليه وسلم بردة). ثم تذكر قصيدة البوصيري، فقال لعلها المراد بالبردة، وأعطاه إياه. ومن ثم سميت القصيدة بالبردة.
وبعد، فأبيات البردة نحو مائة وستين بيتاً. وهي أجود مدائح البوصيري وأسلسلها أسلوبا وأرقاها عبارة وأكثرها رونقا، وأجمعها أغراضاً وأروعها أمثالاً وأوفرها معاني تنشدها العامة وتكرر إنشاءها في مناسبات كثيرة تيمنا بذكر ممدوحها، ومن شأن التكرار في مثل هذه المناسبات أن يعقب الملل، ويورث النفور، ويبعث على الإبتذال، ومع ذلك لا تزال القصيدة محبوبة أثيرة عند العارفين.
وقد تناول الشاعر فيها - فضلا عن ذكر الديار والأحبة ووصف الشوق والحنين، والنزع الصوفي والدعوة إلى الزهد والتحذير من الهوى إلى غير ذلك - موضوعات السيرة النبوية وما امتاز به الرسول الكريم من عظيم الصفات، وهذه الموضوعات منثورة في