كتب السيرة، فليس الشاعر هنا فضل ابتكار، وإنما فضله في نظمها هذا النظم السائغ حتى انحدرت إلى الأسماع جميلة الإيقاع، ورددها اللسان رائعة الألحان. وقد زودها الشاعر ببعض الحلي البديعة التي لا يمل وسواسها ولا يثقل جرسها.
قال في المطلع:
أمن تذكر جيران بذي سلم ... مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
أم هبت الريح من تلقاء كاظمة ... وأومض البرق في الظلماء من أضم
فما لعينيك إن قلت اكففا هتما ... وما لقلبك إن قلت استفق يهم
وقال في التحذير من هو النفس:
وخالف النفس والشيطان واعصهما ... وإن هما محضاك النصح فاتهم
ولا تطع منهما خصما ولا حكما ... فأنت تعرف كيد الخصم والحكم
وقد تناول الحديث عن (النفس) في عدة أبيات تصلح للدراسة النفسية، يتناول فيها الدارس مسألة الغرائز وتربيتها، والعادات وتكوينها، بما لا يقل في جملته عن الدراسات النفسية الحديثة. ومن هذه الأبيات قوله عن النفس بعد أبيات عن المشيب:
من لي برد جماح من غوايتها ... كما يرد جماح الخيل باللجم
فلا ترم بالمعاصي كسر شهوتها ... إن الطعام يقوى شهوة النهم
والنفس كالطفل إن تهمله شب على ... حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
ومن أبياته في وصف الرسول عليه السلام قوله:
ظلمت سنة من أحيا الظلام إلى ... أن اشتكت قدماه الضر من ورم
وشد من سغب أحشاءه وطوى ... تحت الحجارة كشحاً مترف الأدم
وراودته الجبال الشم من ذهب ... عن نفسه فأراها أيما شمم
وبعد، فإن الحديث لا يتسع لإيراد أبيات هذه القصيدة الفريدة، التي كان نظمها فتحا مبينا في الأدب العربي، أفاء عليه ثروة لولا هـ ما فتحت مغالق كنوزها. لا تغلو في ذلك ولا نبالغ. والحق أ، البردة بحاجة إلى رسالة مستقلة تتحدث عنها وعن أثرها، وقد تناولها الدكتور النابه زكي مبارك بالحديث في كتابه الممتع (المدائح النبوية)؛ ولكن إذا علمنا أن البردة قد وضعت لها شروح عدة، وعورضت، وشطرت، وخمست، وسبعت، ووضعت