الحبيب هذا الانتظار، لأن حظ عائدة من الجمال يتسع له الصبر، ونصيبها من تركة أبيها يستحيل منه العوض، ولكن تركة المرحوم تكشفت بفضل المضاربة في البرصة عن دين فادح كان يستره بجمال المظهر وحسن السياسة، فلم يجد بنوه شيئا في البنوك ولا في الدفاتر. فخرج فهمي من المتجر وتبطل، وانقطع شحاته عن المدرسة واشتغل، واعتكفت عائدة في بيتها عن الناس فلم تزر أحدا ولم تقبل أن يزورها أحد. ثم قصرت جهدها على أخويها وحبها على المسيح؛ فهي تعمل طول الأسبوع في البيت ولا تخرج إلا يوم الأحد إلى الكنيسة. ثم استعاضت عن عشرة الناس بعشرة الحيوان، فهي تربى الأرانب في المطبخ، وترعى الدجاج في بالصالة، وتقتني كلبها في الغرفة، وتصطحب هرة في السرير. ولكنها منذ عرفتها وتألفتها نظفت البيت ونظمت الأثاث وجملت المنظر واكتفت من خلطائها العجم بالكلب والهرة.
ثم تعاقبت السنون وتبدلت الأحوال فانتقلنا من حي إلى حي، وتحولنا من ناس إلى ناس، فانقطع علم ما بيني وبين هذه الأسرة الطيبة، فلم أعد أرى فهمي البطين، ولا شحاتة الأعجف، ولا عائدة الرشيقة.
وفي يوم من عطلة الأضحى الماضي كنت واقفا أجيل النظر في المعرض الزجاجي لمكتبة من مكاتب الفجالة، فرأيت بجانبي رجلا أشمط الرأس معروق العظام، يحمل قرطاسا من البلح الأمهات ويديم النظر إلى وفي عينه استفهام وعلى شفته كلام. فلما حدقت ببصري إليه عرفت فيه شحاتة أفندي، فسلمت عليه بشوق، وسألته عن أهويه بلهفة. فقال لي والأسى يقطر من وجهه ويظهر في كلامه: قضى فهمي بالشلل، وقضت عائدة بالسل، وقضى الله أن أعيش بعدهما لأبكي عليهما وحدي، ثم لا أجد من يبكي عليهما ولا على بعدي!
فشجعته ثم ودعته وانصرفت وفي نفسي أن أحي ذكرى هذه الأسرة الطيبة بهذه الكلمة في (الرسالة).