ناحية، وأن يكون انبعاث مذهبه قريبا منه حيث يرقد؛ فوكل أمر إنشائها إلى نجم الدين الخبوشاني، فنهض ببناء مدرسة لم يعمر بهذه البلاد مثلها؛ لا أوسع مساحة ولا أحفل بناء؛ وكان يخيل لمن يطوف بها أنها بلد مستقل بذاته، بازائها الحمام وغيره من مرافقها، فكانت أشبه بمدينة جامعية؛ ولم يضن عليها صلاح الدين بمال، بل كان يقول لنجم الدين: زد احتفالا وتألقا، وعلينا القيام بمئونة ذلك كله. ووقف عليها حماما بجوارها، وفرنا تجاهها، وحوانيت بظاهرها، والجزيرة التي كانت تسمى جزيرة الفيل بالنيل خارج القاهرة. ولعلها بعد أن تم بناؤها سنة ٥٧٢ أصبحت أعظم مدرسة في العالم الإسلامي كله، فكانت لذلك تدعى: تاج المدارس.
وجعل صلاح الذين أمر التدريس، والنظر فيها لنجم الدين الذي تولى أمر بنائها، ورتب له في الشهر أربعين دينارا عن التدريس، وعشرة دنانير عن النظر في أوقاف المدرسة، وجعل له من الخبز في كل يوم ستين رطلا، وراويتين من ماء النيل، ولما مات وليها شيخ الشيوخ محمد بن حمويه الجوبني في حياة صلاح الدين. فلما مات السلطان ولى النظر في وقفها بنو السلطان واحدا بعد واحد، ثم خلصت بعد ذلك، وعاد إليها الفقهاء والمدرسون.
ويدلنا على ما لهذه المدرسة من القدر أن جماعة من أعيان العلماء قد تولوا التدريس فيها، نذكر من بينهم شيخا الأول نجم الدين الخبوشاني، وهو فقيه شافعي ولد بناحية نيسابور سنة ٥١٠، وتفقه على محمد بن يحيى تلميذ الغزالي، وكانت له معرفة بنجم الدين أيوب وأخيه أسد الدين، وعندما قدم إلى مصر نصب نفسه لذم الفاطمين وثلبهم، وجعل تسبحه سبهم؛ ويقال إن الفاطميين حاولوا استمالته فلم يقبل. ولما عزم صلاح الدين على قبض العاضد وأشياعه واستفتى الفقهاء أفتوه بجواز ذلك، وكان أكثرهم في الفتيا نجم الدين الخبوشاني، كما كان أول من خطب بن العباس.
ولنجم الذين كتاب تحقيق المحيط في شرح الوسيط الذي ألفه الغزالي في فقه الشافعية، وكتب الشرح في ستة عشر مجلدا وقد اختلف المؤرخون فيه؛ فالسبكي يراه إماما جليلا ورعا آمرا بالمعروف. وشاهده ابن جبير وأثنى عليه. وابن خلكان يقول: رأيت جماعة من أصحابه وكانوا يصفون فضله ودينه، وأنه كان سليم الباطن قليل المعرفة بأحوال الدنيا. وابن أبي أصيبعة يراه ثقيل الروح متقشفا في العيش يابسا في الدين يأكل الدنيا بالناموس.