الذي فعل المسفوح من دمه بأمتنا، فعل الغيث بالشجرة النابتة
وهذا المعنى - أي معنى الحياة بعد الممات والفرج بعد الشدة والنجاح بعد اليأس - مثله كمثل غرض تعاوره الرماة، فمنهم من هو مقصر دونه، ومنهم من هو واقع يمينا وشمالا، ولم أر أحدا أصاب المرمى كصاحبنا ممن تقدم وتأخر. ولكن من أين لي ذلك البيان الذي يضاهي بيان شاعرنا، شاعر الإسلام. وهذا عذري إلى من وجد الترجمة ركيكة. فمن أبياته الراقية في هذا المعنى:
ما لنا نحزن ونكتئب، إذا تتابعت النوائب على العثمانيين فإن الفجر لا ينبثق إلا بعد ما تهراق دماء مئات الألوف من الكواكب.
رجع محمد إقبال من أوربا، والهند الإسلامية تكاد تحس بتقهقرها في ميادين العمل والكفاح؛ ولزعمائنا المتفرنجين في دينهم وأخلاقهم والرجعيين في سياستهم، سلطان عليهم، فأتخذ من شعره البليغ المعجز آلة لإيقاظ النائمين من سباتهم وتثقيف الشبان العاملين وصرفهم عن الاغترار بمظاهر التمدن الحديث، ووسيلة لتربية ملكات المتعلمين النفسية والخلقية وتطهير نفوسهم من أدران الإقليمية واللون والنسب. وبدأ يقرض القصائد ويطبع الدواوين حتى أنبتت بذرته وأثمرت وآنت أكلها. وما هذا النهضة التي نشاهد اليوم آثارها إلا وميض من بروق إقبال وصنيعه من صنائعه:
وكان من حسن حظ الشاعر الحكيم - أجزل الله مثوبته في الدارين - أن قد شاهد هذا الغرس ينمو ويكبر أمام عينيه إلى أن أصبح شجرة باسقة الفروع، وهو حي يرزق.
في الطور الثالث من حياته الشعرية جاش صدر إقبال بشعر قومي بليغ، ممتلئ حكمة وقوة، نبه النائمين من غفلتهم القاضية عليهم وأرشدهم إلى الصراط السوي في حياتهم السياسية. ومن خصائص هذا الشعر أن صاحبه يفرغه في قالب من التحدي بليغ كأني به يلهمه إلهاما. أما معانيه السامية فمما لا يستراب فيه أنها لا تتسنى إلا لمن فتح الله قلبه لأسرار الطبيعية، وحوادث المستقبل. وأحسن كلمة له في هذا الطور (منارة الساري) أو