كانت هذه المصادفة على باب (المدرسة البادرائية) في ليلة من ليالي رمضان، أيام كان رمضان يزور دمشق حقاً، وكانت تدري دمشق بزيارته وتحتفل بلقياه، وكنت خارجاً منها فواجهت أنور داخلا إليها، فوقف يحييني ووقفت أحييه، وكلمني وكلمته، واتصل الحديث ونحن قيام تحت مصباح الشارع، حتى جاء ذكر شوقي، فأنشدني قصيدة له، قرأها بصوت عذب حالم حنون، فأحسست أنه كان يمس بكل كلمة من القصيدة حبة القلب مني، فأحببته. وأنت تلقى المرء أول مرة فتحس بأنك تحبه أو أنك تكرهه، لا تدري لحبك ولا لكرهك سبباً. سر ركبه الله في نفس الإنسان.
وفهمت منه أنه يسكن في (السمانة) وكنت أقيم في (الديمجية) فاصطحبنا، وذكرت له موت والدي في تلك الأيام، فطفق يحدثني عن موت والده وهو صغير، واجتزنا سوق العمارة، والعمارة في دمشق كحي الحسين والأزهر في مصر، إن ضاع منك رمضان ببهائه وجماله وجدته في الحسين أوفي العمارة، وإن خفيت عنك معالم حسنه في كل مكان وجدتها في العمارة أو في الحسين، ولكن ما أدركت تلك الليلة شيئاً من هذا البهاء: لقد كان ما أسمع من أنور أبهى عندي مما أرى، وجعلنا طريقنا على (الدحداح)، وهنالك، على قبر أبيه وقبر أبي، ولدت هذه الصداقة التي أثمرت شعراً وحباً وإخلاصاً، وكانت من أسعد الصداقات. وهنالك في مدينة الأموات، عاشت هذه المودة التي لا يستطيع أن يعدو عليها الموت، لأن الأدب أكسبها الخلود.
وكرت فصول الفلم تتتالى، فرأيتني غدوت صديقه وغدا صديقي، يبثني شكاته وأبثه شكاتي، ويجد في حياتي مشابه من حياته وأجد في حياته مشابه من حياتي، قد ألف بيننا الأدب وألف بيننا اليتم، وإننا كنا مستورين، على حالة هي فوق الفقر ودون الغنى. . حتى كأنني هو وكأنه أنا.
وصار يسمعني شعره، فأجد بواكير شاعر متمكن، لا محاولات طالب مبتدئ، وأجد في هذه (البواكير) قوة في التعبير، وجدة في التفكير، وأبياتاً سائرة، وصوراً رائعة، فهو يقول في الدموع: