من قبل أن يتجاوز (قفا الدور)، أو يتخطى (مكتب عنبر) ولكن عالم أنور الشعري، عالم واسع على ضيقه لأنه عالم القلب، ولأنه متصل بالله؛ وقد تضيق على المرء الأرض كلها إن أقتصر عليها، ولا يضيق عليه شبر واحد سما حتى اتصل بالسماء.
وعاش أنور في عهد جد ويقظة، وإقبال على العلم والعمل، وحفظ أنور أكثر من عشرة آلاف بيت من جياد أشعار العرب،
فجاء أسلوبه كالماء الصافي فيه عذوبة ولين، وفيه إن تدفق قوة ومضاء. وكان شعره أثر الجد ومؤهلات الخلود، لا كأشعار أصحاب المناسبات وطالبي لعجاب العوام. وكان نسجه كالحرير المتين المفوف المنقوش النقش البارع، لا كالنسج الرخيص الذي يتمزق من اللمس، وتذهب ألوانه من رؤية الشمس.
ما مشى أنور على الطريق الذي فتحه له من قبله، بل على طريق شقه هو لمن بعده. وكان أنور إمام جماعة الشباب ولم يكن مؤتماً تابعاً. ولولا نفس من شعر شوقي في مثل (ليل الحزين) من بواكيره، وروح من الأدب الفرنسي في بعضها، لقلت بأن أنور لم يقلد في أسلوبه أحداً أبداً، وهل لشاعر مثل الذي لأنور في وصف الطبيعة وفي وصف البلدان وفي وصف الرؤيا والأحلام، حتى يقلده أنور؟
وبعد فهذا ديوان الوفاء للعربية: نخل مفرداتها فاختار أطيبها، وعرض أساليبها فاصطفى أحلاها؛ وديوان الوفاء لأقطارها: جرى بردى منذ الأزل، وقام لبنان، فهل قال شاعر في بردى مثل الذي قال أنور؟ هل نظم في لبنان مثل ما نظم؟ وهل يعرف القارئ في الشعر العربي كله قصيدة في وصف الطبيعة أعظم من (لبنان) التي اشتمل عليها هذا الديوان؟ أنا لا أبالغ ولا أغالي، وهذا الشعر العربي بين أيدي الناس فمن عرف أعظم منها فليقل. . . ولكن المعاصرة حرمان، وأزهد الناس في العالم أهله وجيرانه، وستمحص السنون هذا الشعر وهذا النثر، وتميز الزجاج من الجوهر، والنحاس من الذهب؛ وهنالك بعد أن يذهب الرجال، وتنقطع الصداقات والعداوات، ولا يبقى إلا الأدب الذي يستحق الخلود، تعرف قيمة (لبنان) وقيمة (بردى)، وهنالك بعد أن يعفى النسيان على أسماء كثيرة تملأ اليوم الأسماع، وتشغل الناس، يحتل اسم أنور العطار مكانه مع أسماء الشعراء الخالدين.