للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

استطاع أن يصغر فمه أو يجمل أنفه لاستطاع أن أن يبدل قلبه ويحول عواطفه.

وقد نشأ أنور مثلما نشأت أنا، وفتح عينه على الدنيا والحرب العالمية قائمة، ودمشق في أشد أيامها، ومظاهر البؤس والألم في كل مكان، فكان يرى الازدحام كل صباح على الفرن، ولم يكن يفتح منه إلا كوة صغيرة يبرز منها رأس الخباز ليعطي السعيد من الناس كتلة سوداء لا يعرف ما هي على التحقيق وإن كان يعرف أن اسمها (الرغيف)، والجياع ينبشون المزابل ويأكلون قشور البطيخ، والنساء يعملن من دون الرجال لأن رجال دمشق قد أكلتهم الحرب، والاسم المرعب أسم جمال باشا يملأ القلوب فزعاً. ثم رأى المشانق وشهد المآتم، فامتلأت نفسه بهذه الصور القاتمة حتى لم يبق فيها مكان لغيرها. وإذا هو رأى الأعراس والأفراح أيام فيصل، فان هذه الأيام لم تكد تبدأ حتى انتهت، ولم نكد نستمتع بفرحة الاستقلال في حفلة التتويج، حتى ذقنا غصة الانتداب في مأساة (ميسلون).

فلا تلوموا أنور إن كان الحزن طابع شعره، وأن الفرح فيه مثل الفجر الأول لا يكاد يبدو بياضه في الأفق حتى تبتلعه بقايا الليل فهذا هو السبب.

ولا تلوموه إن تغزل، فتكلم عن الرؤى والأحلام، وترك الحقائق وعلا إلى سماء الخيال ولم ينزل إلى أرض الواقع، وأنه عمم وجمجم، فلم يخصص ولم يصرح، فإن البيئة التقية التي نشأ فيها أنور لم تكن ترى في الحب إلا (ذنبا) على صاحبه أن يستغفر الله منه، وأنا أؤكد أن أنور، كنصيب الشاعر الذي سمى قوسه ليلى ليتغزل بها. إن أنور لم يتصل في حياته بفتاة على نحو ما يفعل شباب اليوم، وإنه كان أعف وأِشرف من أن يفكر في هذا أو يحاوله، فمن هنا جاء الذي تلومونه عليه.

ولا تأخذوا على أنور أنه حبس نفسه في هذه الدائرة الضيقة وقصر عليها شعره ولم يخرج إلى الفضاء الأرحب، ولم يعش في الدنيا الواسعة التي يعيش فيها أكثر الشعراء والناس، فإن أنور أمضى صباه كما أمضيت صباي في عالم ضيق كانت حدوده تلك المسالك الملتوية الموصلة إلى مكتب (عنبر)، وتلك الساقية الصغيرة المطيفة بمقبرة الدحداح، وذلك الطريق الموحش الذي كان ينتهي عنده العمران، ويبدأ منه عالم الظلام والفزع واللصوص، والذي كان أسمه (قفا الدور) فصار يسمي اليوم (شارع بغداد) أفخم شوارع دمشق الجديدة.

إن أنور يخشى اليوم أن يفارق عالمه الشعري الذي أحبه، أو يتجاوز حدوده كما كان يخشى

<<  <  ج:
ص:  >  >>