للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ومثل الذي تحسه وأنت تسمع حديث أنور، عندما يكون أنور في سبحاته الشعرية.

ورأيتنا، ونحن في مطلع سنة ١٩٣٣، وقد لقيت أنور، فقال لي: لك عندي مفاجأة تسرك. قلت: وما هي؟ قال: لا، إلا أن تتغدي معي في الدار، فذهبت معه فإذا هي مفاجأة تسر حقاً: العدد الأول من مجلة الرسالة.

ومن ذلك اليوم دخل بيننا (نحن الاثنين) صديق ثالث، أحببناه وأحبنا، وهو الزيات ورسالته، وصارت الرسالة مدار أحاديثنا، وصارت مستقر أدبنا، وصار الزيات أخاً لنا كبيراً، وصديقاً عزيزاً، وإن كنت لم أره إلا بعد ذلك بثلاثة عشرة سنة، ولم يره أنور إلى الآن.

ورأيت أيام المعجزة التي ظهرت على يد الصديق منير العجلاني وكانت تظن من باب المستحيلات، أيام المجمع الأدبي، حين ألف بين رجال ما كنا نتخيل أنها تؤلف بينهم الأيام، لاختلاف مذاهبهم في الأدب وتباعد مسالكهم في التفكير، وتباين طرقهم في الحياة، وكانت أيام ألفة ونشاط وأمل، فأعقبها أيام افتراق وكسل ويأس. . . فيا ليت منيراً الوزير يكمل ما بدأه منير المحامي!

رأيت هذا كله، فحرت ماذا أصف وعم أتكلم، وكيف أستطيع أن أجمع في كلمات دنيا من العواطف، وعالماً من الذكريات، وآلافاً مؤلفة من المشاعر، كانت أثبت من الزمان لأنها بقيت وقد ذهب الزمان، وكانت أجمل من العمر لأنها هي جمال العمر؟

رأيت (هذا) كله وما (هذا) إلا تلخيص لحياة أنور الشاعر الذي عاش حياته كلها كما يعيش الشعراء الخلص الملهمون شعراء القلب والروح واللسان، لا شعراء الألفاظ وحدها والبيان الشاعر في قلبه المتفتح أبداً للجمال المترع بالخير الممتلئ بالحب، وفي لسانه الذي يفيض أبداً بالبيان، وينفث السحر الحلال.

وفي هذا التلخيص تحليل شاعرية أنور، فإذا أخذتم عليه أنه كان حليف الحزن صديق الأسى، قد وقف شعره على تقديس الألم العبقري فبكى الأحلام الضائعة كما بقي الأوراق المتناثرة في (الخريف). وخلد مظاهر الأسى في النفس وفي الطبيعة؛ فاعلموا أنه لم يكن يستطيع غير ذلك، وأن الشاعر لا يطبع نفسه كما يشتهي ولكن يطبعه الله بطابع البيئة والزمان، ويكون مشاعره في طفولته، قبل أن يشعر هو ليكون مشاعره كما يريد؛ ولو

<<  <  ج:
ص:  >  >>