حملنا منها من ذكريات. . . على دجلتها سلام بردى، وعلى نخيلها سلام الحور، وعلى أبوذيتها سلام العتابا، وعلى أعظميتها وكرادتها ورستميتها سلام الربوة والمزة والشاذروان.
لقد كنا فيها معاً أبداً، يدرس أنور في صف وأنا في صف، وربما دخلت فدرست مكانه وقعد فاستمع؛ وربما دخل فدرس مكاني وقعدت فاستمعت. ونمشي على الجسر معاً، وما في الأرض مكان أحفل بذكريات المجد والشعر والغرام من جسر بغداد - ونتبع الشط، ونرتاد الرياض، نزور قصور الخلفاء، ومواطن الشعراء، وخلوات المحبين، نؤم الديارات والأطلال والمقابر، نتنسم عرف الأجداد، ونستروح رائحة الماضي، نستنطق دجلة، ونستخبر الآثار، ونسأل النخيل، ونسمع من الأرض ومن الناس أخبار الماضي الفخم، وأحاديث الجدود العبقريين، وقصص المجد الذي لم ترى عين الزمان ولم يحمل متن الأرض مجداً أجل منه ولا أعظم، ولا أرسغ أساساً ولا أعلى ذرى. ولم يكن يرانا الناس إلا معاً، ولا يقولون إلا أنور وعلي، وعلي وأنور، وربما خلطوا فقالوا علي العطار وأنور الطنطاوي. . .
لقد كانت أيام بغداد أجدى الأيام على أنور، ففيها أختزن في نفسه أجمل الصور، وفيها نظم أروع القصائد، وفيها ابتدأ في حياة الشاعر عهد جديد هو عهد الشعر القومي: شعر الحماسة الوطنية، فازدادت بذلك هذه القيثارة السحرية وتراً جديداً، خرجت منه أطيب النغمات.
رأيت هذا كله فأحسست أن الدنيا تدور بي، واختلطت عليّ الصور وتداخلت المشاهد، فلم أعد أستطيع أن أتبين شيئاً، ولم أستطع أن أكتب شيئاً. . .
ورأيت فصول (الفلم) تتتالى، فإذا نحن في سنة١٩٣٠، وقد بقيت بلا عمل (عقب عودتي من سفرتي الثانية إلى مصر)، فأخذني أنور إلى إدارة فتى العرب، فقدمني إلى معروف الأرناؤوط لأعمل معه في الجريدة، وقد عملت معه شهوراً، وصارت الجريدة ملتقانا أنا وأنور، وصارت مدرستنا الثانية نأخذ فيها من نفس معروف، ومن أدب معروف. وما رأينا في الأدباء من هو أحلى حديثاً، وأظهر صفاء، وأملأ بالأدب الحق من فرعه إلى قدمه من معروف، إذ كنت تشعر وأنت معه أنه يعلو بك عن المادة، ويسمو عن المطامع، ويوصلك بحديثه وابتسامته وطفولته إلى عالم كله وعاطفة وتجرد. وشيء آخر كنت أحسه ولا أملك التعبير عنه، شيء مثل الذي تحسه وأنت تقرأ في رواية معروف (عمر بن الخطاب)،