ثقالا، وسلكت البوادي المقفرة، وركبت البحار الهائجة، وعلوت متون السحب، فما رأيت في البر، ولا في البحر، ولا في الجو، شيئاً اشد ولا أصعب، من هذا الجذر التكعيبي.
ورأيتنا قد فرقت بيننا الأيام أمداً، فاشتغلت أنا بالصحافة، وغامرت في السياسة، وآثر أنور التعليم، فكان مدير المدرسة الأولية في (منين)، في هذه القرية النائمة في حجر (القلمون) الأدنى، نرى مواكب الأحلام بأجمل (عين) وأشدها سحراً، وأكثرها فتوناً: عين منين من لم عين منين، ما عرف سحر العيون، ولا رأى جمال الينابيع، ولا رشف خمر الجمال على مائدة الطبيعة. . فكنت أزوره فأقضي ليلة أو ليلتين في جنة قد جمعت فيها النعم، أسكر فيها سكرين: سكر الجمال، وسكر البيان؛ وأخضع فيها لسحرين: سحر الطبيعة، وسحر الشعر؛ وأجمع فيها الماضي البهي ذكرى حلوة، والأتي الشهي أملا مرتجى، في حاضر ضاع في نشوة اللذة حتى لم يبق لنا منه حاضر نحسه وندركه. نقضي الإصباح نستمع إلى أشعار السواقي المتحدرة من الينبوع وأشعار أنور، ونقطع الأماسي عند الصخور التي أفضنا عليها من قلوبنا الحياة فصارت تحنو علينا، وتولينا الحب؛ وأرقنا عليها البيان فأمست تحدثنا، تتلو علينا أحاديث الغابرين، وتقص قصص الأسلاف، من غسان أصحاب المجد المؤثل، فنحس أن قد عاد الماضي، ورجعت (القصور البلق) عامرة، وبعث المجد، وعاش الحب، حتى لكأننا نسمع همس العشاق وآهات نشو اتهم ووسوسة قبلاتهم، ونرى خيالات العناق من وراء الأستار!
أيام سعدنا بها، وما سعدنا بالصخر ولا بالماء، ولكن بأحلام الشباب. رحمة الله على شبابنا، وعلى تلك الأيام!
ورأيتنا وقد صرت أنا معلماً في الجبل من دمشق (في المهاجرين)، وصار هو معلماً في السفح (في الصالحية)، فكنا نرتقب المساء ارتقاباً، فإذا حل انحدرت أنا من هنا، وانحدر هو من هناك حتى نلتقي عند (العفيف)، نفرح بهذا اللقاء فرح حبيبين التقيا بعد طول الفراق!
ورأيت أيام العراق، زهرة أيامنا أنا وأنور وزينتها، أيام بغداد! سلام المحبة والوفاء منا على بغداد! وسلام على أهاليها! وسلام على الأثري والجوادي وروح الراوي وعلى إخواننا وعلى تلاميذنا فيها. . . ويا ما كان أحلى أيام بغداد، ويا ما أبهى لياليها، ويا ما أطيب ما