على أن ولاء توماس السياسي لا يعرف حدوداً إقليمية كمعظم المثقفين الممتازين، ولكن ولاءه الثقافي لا يزال ألمانياً، ولا يجاري هؤلاء اللاجئين من كتاب أوروبا الوسطى - ومعظمهم يهود - في تهالكهم على الاندماج في الثقافة الأمريكية المزدهرة اندماجاً فيه كثير من النفاق، وفيه كثير من (المادية) التي تفسد مقاييس الإعجاب الفني والإنتاج الفني.
هذا الكتاب الجديد دراسة للعلة الألمانية، وتوماس مان حريص على أن لا يوصي بمعالجتها أو بإيجاد حل لها، فإذا قرأته - وقراءته من أمتع القراءات في الأدب الغربي المعاصر - خرجت منه بشيء واحد، وهو أن هذه العلة الألمانية حقيقة ثابتة، لم تستمد وجودها من النازية ولكن من صميم الثقافة الألمانية والخلق القومي الألماني.
هو حوار بين توماس مان ونفسه، وهو تحليل لهذا الانفعال العقلي الشديد الذي ألم بتوماس مان بعد أن شاهد المحنة تلم بالثقافة التي ولد فيها وأحبها وأنشد روائعها في قوة وإجادة. وهذا الحوار قصة بطلها فنان ألماني معاصر هو (أدريان ليفركون) وهو مجدد موسيقي توفي في أوج المجد النازي عام ١٩٤٠ قصها على القارئ أستاذ في مدرسة ألمانية أختلف مع النازية حول فلسفة التربية فأنزوي في الأرياف يكتب ويفكر، فلا هو منقطع عن الحياة الألماني - فإن له ولدين في الجيش - ولا هو قانع بالاتجاه الذي تسير فيه هذه الحياة الألمانية.
والظاهرة الخالدة التي تكرر في إنتاج توماس مان هو هذا التوازن في الوضعية، والصراع العقلي الذي ينشأ عن هذا التوازن - صراع الأمن في عزلته في الأرياف، والفنان الثائر على الوضع يحمل على أكتافه عبء المعرفة، الصراع بين (الصحيح) و (المعتل). خذ أي قصة من قصص توماس مان (جبل السحر)(بود نبروك)(يوسف وأخوته) يأسرك هذا الصراع، إذ أنه سبيل إلى تعليل كلا الوضعين في اتزان العقل الألماني المدقق الذي جعل من قصص مان إنتاجاً فلسفياً بالإضافة إلى كونها روائع أدبية خالدة.
ولقد حبك توماس مان هذه القصة في مهارة تنتزع منك الإعجاب.
فراوي القصة (الأستاذ المتقاعد) يعبد عبقرية بطل القصة أدريان، وهذه العبادة ليست وليدة التقدير الحق لهذه العبقرية، ولكن من قبيل عبادة الأبطال، وهي ظاهرة متأصلة في العقلية الألمانية تعمد توماس مان إبرازها لأنها من الأسس الراسخة التي تدفع الألمان أن لا