أما الفقراء فكثير منهم كرماء. ينضحون بالبر على بني الحيوان من الإنسان وغير الإنسان. يتهاونون في الحرص على أطعمتهم وأشربتهم، ويهملون الجدار حتى يمتلئ بالأحجار، فتعج بالزائرين من كل أمة.
والفأر بينهم من الأعيان، يجد في الدار مسرحه، وفي الجدار مطرحه. وله بين هذا وتلك ما شاء من طعام وشراب. . .
وتنعقد بينه وبين الدار صحبة يمتها المقام ويمكنها الألف، فلا يني كلما بان عنها يذكرها، وهي لا تفتأ كلما غاب تتفقده. . . ولو على رضا منه، وكره منها.
وكثيراً ما تنتقل الصحبة بينهما من الدار إلى أصحابها، ومن الجدر إلى أربابها. فتزول الوحشة، ويقوى الأنس، وتستأنس العين. حتى ترى وفود الفأر ترى زرافات لا تهاب ولا توجل. وتدير أعينها ف الحاضرين كأنما تتقاضاهم أجر الحراس وثمن الإيناس. . .
وهذه الدار التي تنشر رسالتها وتقص للناس قصتها، وتحب أن تحدثهم عن الفار ووفوده إليها، وتبسط لهم ما دار بينها من الحوار عن عهد رخائها وبؤسها، وأيام عزها وليالي تعسها، هي دار شاعر! عاش في العصر المملوكي. وهو عصر، كما علمنا، لم يدر للشعراء دره، عاشوا فيه عيش الحرمان، بينما سال سيل خيره في غير مجاريهم، وفاض ثريره دون وديانهم.
أما الشاعر فهو صفي الدين الحلي الذي طوحت به الأيام فنزح عن بلاده، وحمى آبائه وأجداده، إلى ملوك بني أرتق بماردين، وتنقل في مساكنها من دار إلى دار، حتى استقر في (دار ابن الدكناس) وكتب على لسانها هذه الرسالة.
ولهذه الرسالة أو المقامة سبب اتخذه الشاعر الناثر وسيلة لأن يكتبها على لسان داره.
وقد أفصح عن هذا السبب بقوله:
(وأنشأ عن لسان الدار التي أسكنها بماردين، وتعرف بدار ابن الدكناس، إلى القلعة الشهباء. وأرسلتها إلى السلطان الملك الصالح أبي المكارم شمس الدين. أشكو بفحواها مماطلة نائب له بدين، كان بضعه لي، وبعضه على يدي، بمبلغ طائل كتبه على نفسه، وأخرجه على مصالح الدولة، وتعذر عليه وفاه. ولم أؤثر مخاشنته لسابق صحبة بيننا. فأنشأتها على سبيل