بلغ من صبابة العيش عندي ... طففتها الأيام تطفيف بخس
وبعيد ما بين وارد رفه ... علل شربه ووارد خمس
وكأن الزمان أصبح محمولاً هواه مع الأخس الأخس.
وهنا يثور فيه الحنين إلى وطنه الشام، فيرى أنه لم يكن حكيماً، يوم باع هذا الوطن، واشترى به العراق، ولكنه لا يسرف في هذه الثورة، ولا يطيل، بل يكتفي بقوله:
واشترائي العراق خطة غبن ... بعد بيعي الشآم بيعة وكس
أما شوقي فيبدأ بالحنين إلى الشباب وملاعب الشباب، والحنق على هؤلاء الذين حرموه الإقامة في وطنه، وأبعدوه عنه، ويرق شوقي في حديثه عن قلبه الذي لم يسل بلاده، فهو متنبه مستطار، إذا استمع إلى البواخر مقلعة أو عائدة، فيقول:
وسلا مصر، هل سلا القلب عنها ... أو أسا جرحه الزمان المؤسي
كلما مرت الليالي عليه ... رق، والعهد في الليالي نفسي
مستطار إذا البواخر رنت ... أول الليل أو عوت بعد جرس
راهب في الضلوع للسفن فطن ... كلما ثرن شاعهن بنفس
فهذا القلب يكاد يطير من بين أضالعه كلما أصغى إلى باخرة تصيح في هدأة الليل، وهو كالراهب المتبتل يدق ناقوسه، كلما ثارت سفينة، تزمع الرحيل؛ وهنا يأسى شوقي لحرمانه من وطن ينعم به حتى غير أهله وذويه:
إحرام على بلابله الدوح، حلال للطير من كل جنس.
وإذا كانت ثورة البحتري على بعده عن وطنه قد وقفت عند حد إعلانها، فلم يحدثنا عن هذا الوطن قليلاً ولا كثيراً، فإن الذكريات تتهال على شوقي، وصورة بلاده تتمثل أمامه، فيطفئ شوقه بالحديث عن طبيعتها حيناً، وعن آثارها حيناً آخر، وإنه ليسمو إلى أبعد الغايات في تصوير هذا الشوق إذ يقول:
وطني لو شغلت بالخلد عنه ... نازعتني إليه في الخلد نفسي
وهفا بالفؤاد في سلسبيل ... ظمأ للسواد من عين شمس
شهد الله لم يغب عن جفوني ... شخصه ساعة ولم يخل حسي
وينتقل خيال شوقي بين الإسكندرية، وعين شمس، والجزيرة، والنيل، والجيزة، وبين