الأشباح فلم يعد يبصر شيئاً، ولكن همهمة غير مفهومة، ودبيباً وهمساً وأصواتاً غريبة كانت تصك أذنه من بعيد. واستلقى ثانية على الفراش وهو يحدق في الحائط الذي أمامه تحديق الخائف المذعور، فقد أبصر ظلاً أسود مطبوعاً عليه يحرك رأسه ويشير بيديه كأنه يتحدث إلى شخص بعيد. وود توفيق أن ينظر إلى ما وراء ليرى المشار إليه، ولكنه خاف؛ واستمر الهمس والدبيب يرنان في أذنيه، وتتراقص الرؤى والأشباح أمام عينيه، فلم ينم ليلته؛ وفي الصباح مع أول خيط من ضوء النهار كان جالساً في فراشه يصفق بيديه في عنف يستدعي الخادم، ودخلت أخته تحييه، فراعها ما رأت في وجنتيه من صفرة الخوف وإعياء السهر، وقالت له:
(توفيق ماذا بك؟)
- (لا شيء، ولكني مسافر اليوم فأعدي لي ركوبة إلى المحطة)
- (لاشيء، لاشيء، قلت لك لاشيء. إن حقيبتي في الغرفة الثانية!.)
وآلمتها لهجته فمطت شفتيها آسفة وخرجت تنفذ ما أمر به، ثم عادت تسأله:
- (حدثني يا توفيق، هل تألمت من شيء هنا؟)
- (لا، ولكني لم أخبر أمي أمس أني مسافر، فأخشى أن يقلقها غيابي أو يألمها.)
- (ليتك لم تحضر يا توفيق!) وانصرفت لبعض شأنها.)
وحين تناول توفيق حقيبته من حيث وضعها أمس أفلتت منها ورقة فظنها سقطت منه ودسها في جيبه قبل أن يقرأها.
ولما جلس في القطار وضع يده في جيبه ليخرج شيئاً فعثر بالورقة، ونشرها بين أصابعه يقرؤها. . . وضحك توفيق وشاع في وجهه السرور حين عرف ما هناك؛ لقد كانت أخته تربي له ماعزة ولوداً، فكتبت له هذه الورقة أمس تخبره أن في ضيافة ماعزته فوق السطح جدياً فلا يفزعه دبيبهما ريثما ترد الجدي إلى صاحبه في الصباح. . .
لقد خاف توفيق وفزع ليلته لأنه كان يظن أنه وحده ضيف البيت. . .!