غلاء فاحش وجدب ضارب، وينكر إن للعثمانيين رغبة في القتال، ويدعو السلطان إلى القبوع والقعود.
ومهما يكن من شيء فقد أنصف السلطان نفسه، وأعد العدة وأنفق المال، وجمع الجند وعين القادة ورتب أمر الخروج إلى الشام لملاقاة بني عثمان. وهو لا يعلم أن العثمانيين قد اتصلوا ببعض أمرائه فوجدوا منهم نفوساً وقلوباً عليلة لا تكبر الأمانة، وتستعذب الخيانة في سبيل للطمع غير المشروع. .
خرجت مواكب الجيش تترى ناسلة إلى دمشق فحلب، وعليها طلاوة وبها خيلاء، ويحسب من يراها أنها إلى النصر تسير وإلى القلب تطير. وهو لا يعلم أنها تجمع قوماً إن لم يمزقهم الضعف فقد فرقهم الخلف، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، عمادها فريقان من المماليك هما (الجلبان والقرانصة)، وبينهما عداء مستحكم اضطرمت ناره وتطاير شراره، وقد تمكن منهم الفساد وحب العناد.
لا نريد أن نسهب إسهاباً تاريخياً في وصف مظاهر الضعف في الجيش المصري، ولا في أنباء قتاله حينذاك، فقد امتلأت بهذه الأنباء بطون الموسوعات.
وحسبنا أن نذكر أن هذا الجيش - على علاته - لقي جيش العثمانيين على كثرة جنده ووفرة عدده، فكاد يذهبه بدداً ويفرقه طرائق قدداً، وذلك في موقعة (مرج دابق) لولا أن أطلت الخيانة بقرونها، وطلع الغدر عليه مطلع الشيطان. فانحاز بعض القادة من سلطانهم بلا سبب، ودبت الوقيعة بين القراصنة والجلبان فشغلتهم أنفسهم عن واجبهم، فكر العثمانيون عليهم وطعنوا القلب، وفيه السلطان يدافع عن شرفه وكرامته، وقد أسفه تفوق الأنصار عنه، وفرار الأصحاب منه. فاضطرب لبه، وامتلأ بالحسرة قلبه. ولهج لوقته وتهاوى عن متن جواده وتناولته سنابك الخيل. ودارت الدائرة على جيش مصر، ورجعت إليها فلوله باكية حزينة.
وتعتبر موقعة (مرج دابق) المشئومة من المواقع الفاصلة في تاريخ مصر. فتحت أمام العثمانيين الطريق إلى غزوها وتمام إخضاعها. وهكذا جثت مصر والشام أمام الغزاة، ووقعتا فريستين سمينتين لهم، فلبثوا بهما زهاء ثلاثة قرون تعسة شقية، لم تسعدا فيها بيوم هناء.