بهم إلى غير رجعة بعيداً عن أرض مصر، فلم تطأها لهم قدم. وتعتبر أن نقطتي تحول حاسم في تاريخ مصر لا تقلان في أهميتهما عن موقعة (العلمين) في الحرب الأخيرة. وبدت بهما قوة التتار خرافة لا سند لها، وأن التغلب عليها مستطاع، متى صدق الإيمان، واجتمع الصبر والتعاون، واتحدت القلوب وقد عاشت سلطنة المماليك بعدهما بفضل شجاعة (قطز) وموقفه الرائع، أكثر من قرنين ونصف.
أما في الموقف الثاني فقد كان في عام ٩٢٢هـ على عهد سلطان مصر قانصوه الفوري، الذي اقتيد إلى العرش بين بكائه ونحيبه رهبة وإشفاقاً من المصير. فقد كانت البلاد مزقتها الفتن الداخلية والحروب الأهلية، ولج بين بنيها الخلف، وصنع بهم ما يصنع السيف. وخوت خزائنها على عروشها. ولم تعد بها إلا حثالات وشراذم من أمراء وجنود، تملأ كل شرذمة العصبية لنفسها، وحب الجهاد لمنفعتها، غير آبهة لسواها إلا مزاحمة ومجالدة، ولم يعد يعنيهم من شؤون البلاد شيء إلا استقلالها. بينما كانت دولة العثمانيين في آسيا الصغرى تبسط سلطانها وتنشر طغيانها. وما وافى عام ٩٦٢هـ حتى أخذت تمهد لغزو الشام ومصر. ووطئت أنباء استعدادها آذان البلاد. فاضطر الغوري إلى الخروج عن البلهنية والطمأنينة، إلى العمل على اللقاء. وشرع بجميع القادة والجند ويحثهم على التهيؤ للخروج إلى الجهاد، فكان كأنه يستجديهم شيئاً لنفسه، لا أنه يتقاضاهم للقيام بواجبهم. لذلك اثاقلوا عنه ولم يخفوا إليه. وكان كل ما حوله يخذل عن القتال ويثبط عن النفور إليه إلا بقية ممن لا تزال بهم بقية من ضمير، وقبس من إخلاص، وإثارة من كرامة.
وكانت بالسلطان غفلة لا تنبغي لمثله في وقت شدة وضيق، وكلما وردت أخبار تومي إلى الصلح والتراضي بينه وبين العثمانيين هش ونش، وهلل وكبر، وفرح واستبشر. ولعله كان يرمي من وراء ذلك إلى حسم العداء وحقن الدماء، ولا سيما أن العثمانيين إخوان في الدين. ولكن اللهج بالصلح ضعف، واشتهاه الموادعة خور، والاستسلام للعافية جبن.
وكانت تجيئه رسل السلطان سليم فيبهرونه باللسان المعسول، والهدية النفيسة، فيلقاهم لقاء الحافل، ويعاتبهم عتاب الخليل، وما كانوا إلا ليمهدوا للظفر بالغافلين. وبث العثمانيون العيون لينقلوا إليهم أخبار مصر وجيشها الباسل وسلطانها المغوار، فلم يعمل أحد على قطع دابرهم والقضاء عليهم، وبعث نائب السلطان بالشام إليه يجأر بالشكوى مما بالشام من