للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ألم يطعنوا على الرجل في دينه وخلقه وتقواه!! محن مظلمة غشيت النابغة العظيم كقطع الليل فعلمته كيف يجيد الحديثعن الوشاة والأعداء، بل إن أعظم فصل في كليلة ودمنة وهو باب الأسد والثور يدور حول الأفاكين من الوشاة، وكيف يبذرون بذور الشقاق بين الأحبة والأصفياء، وقد اصطبغ فيه حديث الكاتب بصبغة شاحبة مشجية حتى لتتصور كلماته أنيناً يتردد في قنوط وحرمان!!

وقد يبدو لمن يطالع ابن المقفع في باب العداوة والكيد أنه عفو صفوح يتبع السيئة الحسنة، لأن له من العبارات ما ينطق بالتسامح والحنو كأن يقول (ابذل لصديقك دمك ومالك، ولعدوك عدلك وإنصافك، وللعامة بشرك وتحننك) ولكن من يتعقبه تعقبا جديا يدرك مقدار يقظته وانتباهه، وما أحب أن أحلل أقواله تحليلا يتشعب معه القول في فجاج شاسعة بل أنقل إلى القارئ بعض ما أثر عنه في مؤاخذة الأعداء، قال ابن المقفع

١ - إن كنت مكافئا بالعداوة والضر فإياك أن تكافئ عداوة السر بعداوة العلانية، وعداوة الخاصة بعداوة العامة؛ فإن ذلك هو الظلم. ومن الحيلة في أمرك مع عدوك أن تصادق أصدقاءه، وتؤاخي إخوانه، فتدخل بينه وبينهم في سبيل الشقاق والتلاعن حتى ينتهي ذلك بهم إلى القطيعة والعداوة له.

٢ - قارب عدوك بعض المقاربة لتنال حاجتك، ولا تقاربه كل المقاربة فيجترئ عليك، ويضعف جندك وتذل نفسك ومثل ذلك مثل الخشبة المنصوبة في الشمس إذا أملتها قليلا زاد ظلها، وإذا جاوزت بها الحد في إمالتها نقص الظل.

٣ - الحازم لا يأمن عدوه على كل حال فإن كان بعيدا لم يأمن سطوته، وإن كان مكثبا لم يأمن وثبته، وإن كان وحيدا لم يأمن مكره. . . وإن صرعة اللين والرفق أسرع وأشد استئصالا للعدو من صرعة المكابرة، فإن النار لا تزيد بحدتها وحرارتها إذا أصابت الشجرة أن تحرق ما فوقها، والماء ببرده ولينه يستأصل ما تحت الأرض منها.

وقد يوجد من يؤاخذ ابن المقفع على اختراع هذه الأسلحة الفتاكة في حرب العدو، وربما ظن الظنون بنابه الأزرق، وشك في دخيلة نفسه ونحن لا نتردد في تبرئة الكاتب مما قد يعلق ببعض الأذهان حيث لا نرى جناحا في الكيد لمن يسوء، بل أن على الرجل الذي يحترم رجولته أن يضرب أعداءه ضربة قاصمة حتى لا يسمح للعقارب المؤذية أن تنفث

<<  <  ج:
ص:  >  >>