حاصرها حصاراً عنيفاً. وقد فكر في أن ينزل عقوبة مخيفة بالصليبيين انتقاماً لما اقترفوه من مذابح عندما دخلوا بيت المقدس وأنطاكيا وغيرهما، ولكن إنسانيته غلبت غضبه، فلم يقتل عدا المحاربين أحداً، ولم يأسر رجلا ولا امرأة ولا طفلا. ولم يستول على ممتلكات أحد، وأمر جنده بإعادة ما أخذوه فعاد البلد آمناً عامراً
كان لسقوط الرها دوى عظيم في جميع الأرجاء. وكان فتحاً عظيماً ملأ قلوب المسلمين غبطة وبهجة، وأقبل الشعراء يهنئون عماد الدين بهذا الفتح وأكثروا وأطالوا؛ فمن ذلك ما قاله ابن منير:
صفات مجدك لفظ جل معناه ... فلا استرد الذي أعطاكه الله
يا صارماً بيمين الله قائمة ... ووفي أعالي أعادي الله حداه
أصبحت دون ملوك الأرض منفرداً ... بلا شبيه، إذ الأملاك أشباه
فداك من حاولت مسعاك همته ... جهلا وقصر عن مسعاك مسعاه
أين الخلائف عن فتح أتيح له ... مظلل أفق الدنيا جناحاه
فتح أعاد على الإسلام بهجته ... فافتر مبسمه واهتز عطفاه
أبقاك للدين والدنيا تحوطهما ... من لم يتوجك هذا التاج إلا هو
ترك عماد الدين الزنكي حامية قوية في الرها، وأخذ يتابع انتصاراته على الصليبيين ويستخلص من أيديهم ما بقي من إمارة الرها، وبينما هو يحاصر إحدى القلاع اغتاله وهو نائم أحد مماليكه بإغراء أعدائه وذلك في ربيع سنة إحدى وأربعين وخمسمائة
كان زنكي إلى جانب شجاعته وبسالته سياسياً ماهراً، يهادن عدوه، ويلين إذا رأى ذلك ضرورة أو كان محتاجاً إلى وقت يجمع فيه شمله، وبعد عدته فإذا رأى الفرصة مواتية انقض لا يلوي على شيء، ويفرق بين خصومه بالحيلة والمكر حتى يأخذ كلا على حدة، وساعده على النجاح في حروبه ما بثه من العيون في بلاد عدوه تأتيه بالأخبار وتنقل إليه حقيقة الحال.
مات عماد الدين وألقى عبء إكمال جهاده على عاتق ولده نور الدين، وأرجو أن أوفق في كلمة أخرى إلى بيان المدى الذي بلغه الابن العظيم في تحقيق آمال والده البطل الكبير.