فيها القاضي المدني، ويلزم بالجري فيها القاضي الجنائي ليتخطى الخطأ ويصيب الصواب فيما يقضي به على الأضناء.
ومما لا ريب فيه أن الشهادات المدلى بها أمام القضاة وسائر البينات المعروضة عليه، لا تكفي وحدها دليل نفي أو إثبات، فهناك الشخصية التي تدور عليها هذه البينات، وهي شخصية المتهم، ولا بد من إيضاح الخطوط الدقيقة التي تتجاذب أو تتنافر عندها تلك الأدلة مع شخصية المتهم لتقوم حجة له أو عليه، وهذا ما يضطلع به علم النفس وما تسديه يداه. ثم هناك ماهية الجريمة، فإنها هي الأخرى لا تقدر حق قدرها إلا بعد إيجاد نقط اتصالها بشخصية المجرم، وذلك ما يعنى به علم النفس أيضاً ويقوى عليه. بل إن الأدلة نفسها لا بد من النظر إليها على ضوء هذا العلم قبل الأخذ بها أو طرحها، حتى إذا ثبتت إدانة المتهم وعد مجرماً وأريد فرض العقاب عليه، برزت أمام القاضي الجنائي مسألة خطيرة هي تعيين درجة مسئوليته عن جريمته، وهنا تنفتح أما القاضي الجنائي أبواب علم النفس الحديث لتفتح مغالق هذه المسؤولية في الأعماق البعيدة من نفسية المجرم.
والواقع من الأمر أن المجرم يحمل في جوانحه نفسية شاذة معقدة قد ترسبت فيها أعقاب وراثة طويلة، واستقرت عندها تربية منزلية واجتماعية عليلة وبيلة، وبتفاعل هذه بتلك وتلك بهذه، نشأت عنده الميول الإجرامية، ثم أتيحت لها فرصة العمل بشكل اعتداء على المجتمع.
إن العمل مهما كان شكله وموضوعه لا بد أن يكون ناشئاً عن حافز داخلي، ولا بد لتقدير هذا العمل وإعطائه القيمة الحقيقية له، وتعيين درجة مسؤولية صاحبة عنه، من إزالة الستار عن ذلك الحافز الذي يكمن وراءه. والمجرم مهما كان مالكا لروعه وهدوئه عند مقارفته الجريمة، لا بد أن يكون خاضعاً لتأثير خفي في نفسه، فهو رجل شقي غير سوي، ومقدار شقائه يجب أن يقدر بمقدار ما له م حرية إرادة تجاه ذلك العامل غير الشعوري الذي يمكن أن ندعوه بعامل الجريمة.
إن تحقيق العدالة في تطبيق الإجراءات الجنائية على الوقائع والجناة بحيث تؤدي إلى معرفتهم لا تكفي وحدها دون أن تضم إليها العدالة تطبيع قانون العقوبات على الجناة، بحيث تفرض على كل جان العقوبة المؤثرة فيه، فتنزل عنده بمنزلة الدواء وتمنحه الشفاء