وهذه أول مزايا الكتاب المثمر الناجح. وحسبي دليلا على نفاسة ما أقرأ، أن يثير في نفسي ألواناً من البحث والتمحيص، ويحفزني إلى ارتياد مختلف الميادين الفكرية التي صرفتني عنها عوادي الزمن وشواغله.
وقد كان من حسن حظ المؤلف والقارئ أن يتضافر على كاتب المقدمة ضيق الوقت، وزحمة العمل، ووعكة الصحة، وقلة الصفحات المخصصة للتصدير، فتعجله كل هذه الأسباب مجتمعة عن التفصيل والإسهاب اللذين تحاشاهما مؤلف الكتاب.
وكان من حسنات عصر السرعة الذي نعيش فيه، وما أوجبته المطبعة التي لا تعرف التريث والبطء، ولا تبالي الوعكة ولا المرض ولا تحفل الشواغل وزحمة العمل، أن تعد المقدمة في حيز من الصفحات ثابت معدود، وزمن من الساعات مؤقت محدود. ولولا ذلك لامتد بي نفس القول كما امتد بـ (المعري) منذ ألف عام، حين أجاب عن رسالة (ابن القارح) برسالة الغفران، في أضعاف حجمها، وكما امتد نفس القول بالأمير (شكيب أرسلان) حين تصدى لتنديم كتاب (حاضر العالم الإسلامي)، فزادت صفحات مقدمته على مقدمة (ابن خلدون)، وتجاوزت شروحه وتعليقاته أضعاف حجم الرسالة التي عهد إليه مترجمها أن يقدمها.
ولا عجب في ذلك، فأن نفس القول إذا مددته امتد، وتداعى المعاني لا يعرف الوقوف عند حد:
(والفكر حبل متى يمسك على طرف ... منه، ينط بالثريا ذلك الطرف
والعقل كالبحر، ما غيضت غواربه ... شيئاً، ومنه بنو الأيام تغترف)