وطال احتباس الرجل في بيته وتعطله عن عمله حتى صدئ قدومه ومنشاره، وبيع في الدين متاعه وعقاره. فاقترحت عليه أمه أن يطلق زوجه إبقاء على سمعته وصحته وصنعته؛ فقال لها في إباء وألم: وما ذنب هذه المسكينة يا أماه، وإنك لتعلمين كما أعلم أنها طاهرة الثوب قاصرة الطرف، وإنما جنى عليها هذه الجناية تقليدها البريء لابنة عمها المتزوجة في القاهرة. وقد حرمت على نفسها منذ أن شاع ما شاع أن تتزين حتى بالزجاج، وأن تتجمل حتى بالكحل. وأرى عندي أن نهاجر تحت الليل إلى عزبة من العزب المنشأة في أطرف بلقاس فنستأنف هناك حياة جديدة وعسى الله أن يجعلها بفضل براءتها واستكانتها موفقة سعيدة.
وأصبح الناس فإذا دار النجار مفتوحة بعد أن ظل بابها مغلقاً أثناء الأنهار سنة وشهرين لم يدخل منه داخل ولم يخرج منه خارج. فنفذ المارون بأبصارهم إلى دهليزها فلم يلحظوا حركة تبدوا ولم يسمعوا صوتاً ينبعث؛ فتسللوا إليها حذرين مستطلعين فلم يجدوا وا أسفاه إلا ربعاً أوحش بعد أن أنس، وروضاً صوح بعد بهجة، وشملاً تبدد بعد اجتماع.
ثم مضت الأيام وتعاقبت الأعوام وفعل الزمن فعله في العقول والميول فأصبحنا فإذا الرجل هو الذي يشتري الأحمر لزوجته لتصبغ، ويخلع المعطف عن ظهر أمه لتعرى، ويشعل السيجارة لأخته لتدخن، ويقدم المراقص إلى ابنته لترقص!!
ما أقربنا من ذلك الزمن وما أبعدنا عن تلك الحياة!! كان الولد يشب ثم يتزوج ثم يولد له ويبتليه الله بالتدخين فلا يستطيع أن يعلن ذلك لأبيه، ولا يجرؤ على أن يدخن في حضرة من يكبره. وكان الأخوة لأب وأم يعيشون في دار واحدة ثم لا يرى أحدهم زوجة الآخر. وكانت المخدرة إذا سهلت من حجابها، أو تبرجت بين أترابها، انتفت منها العشيرة وتحامتها الجيرة. ثم أمسينا فإذا المرأة هي التي تدبر الأمر وتسير العرف وتحجب الرجل. وإن مجلسي منكما هذا المجلس، وظهوركما على هذا الظهور، لشاهدان على هذه الحال!
فقالت جارتاي بلسان أوشك أن يكون واحداً في لفظه: تلك سنة الحياة يا أستاذ! قدم ينسخه تجدد، وتأخر يدفعه تقدم، ورق يخلفه تحور! فقلت لهما إن ألفاظ التجدد والتقدم والتحور كألفاظ الحق والعدل والاستقلال، لها في كل ذهن معنى، وفي كل نظام صورة، وفي كل أمانة دلالة. لقد تقدمنا في التعليم ولم نتقدم في التربية، وجددنا في الصور ولم نجدد في