والصوت والملمس، وليس بمقدور الحيوان - أيا كان ذكاؤه - أن يسمو إلى إدراك المعاني الكلية التي يستخلصها الإنسان من مدركاته الحسية. فالإنسان لا يقف عند حد إدراك الأفراد إدراكاً حسياً وتذكرها وتخيلها، ولكن يدرك أيضاً ما تشترك فيه من صفات ويسقط أوجه الخلاف، ويجرد بذلك المعنى العام الذي يدل عليها جميعاً. يدرك عمراً وزيداً وفلاناً وفلانا من الناس، ويتغاضى عن الصفات التي يختلفون فيها من طول وشكل ودين وأخلاق، ويدرك فوق ذلك أنهم جميعاً - بصرف النظر عن حالاتهم الخاصة - يشتركون في صفة الإنسانية. لا يدرك الكلب والقط والعصفور فقط، بل ينتزع من أفراد كل نوع من هذه الأنواع معنى عقلياً - لا حسياً - هو معنى الحيوانية الذي ينطبق على أفراد الحيوان جميعاً بنفس الدرجة. يدرك الإنسان تصرفاً آخر ويحكم عليه بأنه شرير، فهو يدرك إذن معنى الخير ومعنى الشر إطلاقاً، أي بغض النظر عن الفاعل وظروف الفعل. يدرك الإنسانية والحيوانية، والخير والشر، واللذة والألم، والموت والحياة، والحرارة والبرودة، والسعادة والشقاء، دون نظر للأمثلة الجزئية التي تدل عليها هذه المعاني، ومن هنا كانت العملية العقلية التي تتغاضى عن الجزئيات بصفاتها المحسة التي تستخلص المعنى العام الذي ينطبق على جزئيات كثيرة تدعى عملية التجريد.
وظيفة التجريد تزود الإنسان بالمعاني التي ترمز إلى ملايين المدركات الحسية، فتوفر عليه مجهوداً جسمياً أكبر. لذلك كان الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يتجاوز عقله المستوى الحسي إلى المستوى العقلي المطلق من قيود الزمان والمكان، وكان اقدر الحيوانات على التصرف والتكيف للظروف، فهو لا يحتاج إذ يفكر إلى تمثل صور الموجودات التي يفكر فيها، بل يكفي أن يستحضر معنى واحداً كالإنسانية يقوم مقام الملايين من الأفراد الجزئية المحسة. الحيوان يتعامل بالمواد المحسة، والإنسان قد يدع الموقف الحسي جانباً، ويرجع إلى عقله متعاملاً بالرموز التي تمثل عناصر الموقف. فهو إذ يريد أن يشيد بناء ضخماً، لا يستحضر المواد الأولية من حجارة وأخشاب وحديد وأسمنت ثم يعمل فكره في هذا الخليط مجرباً بانياً ثم هادماً ليصلح ما فسد ويقوم ما انحرف، ولكنه يتناول القلم والقرطاس ويسطر المربعات والمثلثات والدوائر وغير ذلك من الرموز الهندسية والمعادلات الجبرية والحيل الميكانيكية حتى يتم التصميم. وما التصميم إلا مشروع عقلي صرف، ثم نتيجة