التأليف بين رموز عدة، فهو بدوره رمز يمكن تنفيذه في الواقع في أي وقت وفي أي مكان وبأي نوع من المواد. ثم يشرع الإنسان بعد ذلك في تنفيذ التصميم بتشييد بناء هو حالة مفردة جزئية من حالات عدة في حيز الإمكان.
يتفرع عن القدرة الرمزية إذن قدرة إنسانية فريدة هي الاختراع الذي تخطى إن اعتبرناه مستنداً إلى الذكاء العملي اليدوي وحده، وهي السر كذلك في القوة الفكرية العظيمة والإنتاج الإنساني الصميم، أعني به (اللغة) فاللغة مجموعة من الرموز يحملها ما أدرك من صفات وما أحس من مشاعر وما يبغي من آمال، وينقلها إلى غيره عن طريق الإشارة أو الإيماءة أو اللفظ، فيكفي أن أتفوه بلفظ إنسان حتى تبرز في ذهنك الصفات التي ينطوي عليها معنى الإنسانية الذي يرمز إلى جميع أفراد الإنسان، وتتابع على صفحته صور حسية عدة، مختلطة مبهمة، مثيرة مجموعة من الذكريات والأخيلة والأحاسيس لا حصر لها.
طالما ردد الفلاسفة (إن الإنسان حيوان ناطق)، ورددنا نحن قولهم هذا دون تدبر لحكمة اختيارهم لفظ النطق للدلالة على التفكير. وبعد ما أسلفنا تبيين العلاقة الوثيقة بين اللغة وبين الرموز، بين اللفظ وبين الفكرة؛ فاللغة نتاج القدرة الرمزية، واللفظ المنطوق به حامل الفكرة المعقولة موشاة بخليط من المشاعر النفسية التي لا تنفصل بحال عن مجرى التفكير، ويتبين صدق الفلاسفة إذ جعلوا النطق - أي التفكير الرمزي - فيصلاً بين الإنسان وسائر الحيوان، يتبين صدقهم لسببين:
الأول: أنه رفع الإنسان فوق الزمن وحرره من قيود المكان وأكسبه قدرة عقلية قائلة لم تكن لتتيسر له أو اقتصر على التعامل بالجزئيات، وقدرة عملية ممتازة تتضح أكثر ما تتضح في المخترعات والمنتجات الصناعية والفنية المختلفة.
والثاني: أنه شكل حياة الإنسان الاجتماعية تشكيلاً راقياً؛ ذلك أن اللغة يسرت اتصال الناس بعضهم ببعض اتصالاً فكرياً وعاطفياً في آن واحد، فهي أداة التعبير عما يدور في الذهن من معان، ووسيلة الربط بين القلوب بما تنقل من مشاعر.
تؤدى اللغة كل ذلك بأيسر وسيلة وأروعها، وهي لا تربط بين فردين في صعيد واحد فقط، بل تصل بين أفراد وأقوام تفرقوا شيعاً في شعاب الأرض قاصيها ودانيها؛ ولا تربطنا بالأحياء فقط بل بالسلف وفد واراه التراب، وطواه التاريخ في عصوره السحيقة. ألفت