أكبر أسواقنا التجارية، وتضارع بشهرتها سوق الحميدية.
رأى هذا الداهية المجرب أهل دمشق غارقين في ليالي القباني وحفلاته فوجدها فرصة سانحة للإصلاح والعمران، وأراد أن يزيدهم مما هم فيه من لهو ومتعة، فأدنى القباني من مجالسه، وصار يتردد على مسرحه وينشطه كما كان يفعل سلفه (صبحي باشا) وكان يجلسه في مجالسه الخاصة بجانبه ويغدق عليه المنح والأعطيات حتى غدا لديه من أقرب المقربين يستشيره في أمور البلد ويركن له ويعول عليه، لأنه رأى فيه صفات الفنان المخلص لفنه المولع بعمله، وقد لقبه بلقب (كوميدي) الشرق. . .
لم يطل بقاء مدحت باشا في دمشق كما طال أمد سلفه، ولكنه في خلال هذه المدة الوجيزة التي وجد فيها خلف من الآثار العمرانية والأعمال والإصلاحية ما يعجز عن الإتيان يمثلها من أقاموا في دمشق السنين الطوال من الولاة والحاكمين، وفي سرحة من سرحات ذلك الفلم المدنف نقل مدحت باشا من دمشق، وأقيم مقامه (الوالي فاضل باشا).
وكان هذا الوالي ضعيفاً خائر العزائم مفلك الأعصاب يفزع من خياله، فاغتنم خصوم القباني فرصة ضعف هذا الحاكم، وأخذوا يدسون عليه، ويناوئونه في عمله حسداً ولؤماً وغيرة فوجدت وشاياتهم وتخرصاتهم عنده آذاناً صافية، وقلباً واعياً.
وكانوا من الأشرار الذين تآكلت أكبادهم من السل حسداً وخسة ودناءة.
فبدا القباني أن يترضى هذه الفئة الخطوة بالمال والرشوة وبإعطائهم بطاقات دائمية يدخلون بها المسرح من غير أجرة إسكاناً لهم وإخراصاً لأفواههم، فوجدوا بهذا الصنيع باباً للكسب، جرأهم على طلب المزيد منه، وجرأ غيرهم على اقتفاء آثارهم، وبعد أن كان القباني ينفق ثلاثة أرباع دخله على المسرح وترقيته وجلب الناقص إليه غداً ينفق هذا الفائض من الدخل على إسكات الخراصين الهمازين المفسدين، فطمع فيه الناس وهان على خصومه أمره، فأفسدت عليه هذه البادرة عمله، ولم تقتصر هذه الرشوات على تلك الفئة من أنباء البلاد والزكونية والقبضايات أمثال (أبو قاعود، وأبو زطام، وأبو اصطيف) بله تعدتهم إلى الشيوخ الانتهازيين المرتزقين الذين لا يراعون إلا ولا ذمة، فصاروا إذا ما بدا منه قصور في هذا الباب أثاروا الدهماء عليه من سواد الأمة وسوقتها باسم الدين، وقديماً كان وثر الدين في مثل هذه المواقف حساساً يستولي به الخاصة على العامة.