أما في هذه الأيام فقد قامت الوطنية مقام الدين في مثل هذه الأيام فقد قامت الوطنية مقام الدين في مثل هذه الحالات وتضاءل تأثير ولذا قال أحدهم في هذا المعنى:
أحبولة الدين راكت من تقادمها ... فاعتاض عنها الورى أحبولة الوطن
وكان الوالي الباشا منهمكاً في تثبيت مركزه وإشغال أهل الشام عنه بغيره، فراق له هذا النزاع القائم في الشام ما بين جماعة القباني ومريديه وما بين خصومه وحساده، فأضرم النار وأذكاها ليلهيهم عنه على قاعدة فرق تسد، فانقسم الناس في هذا السبيل إلى قسمين، قسم بجانب القباني يناصره ويسانده، وهو الطبقة الراقية المثقفة في البلاد، وقسم يناهضه ويعاكسه وهي طبقة الرعاع والجامدين والرجعيين. فاشتد الأمر على القباني وعظم الكرب وحار في أمره.
وكانت المهاترات والتراشق بالحجارة والشتائم توجه إليه وإلى أنصاره كلما أبصره خصومه صبحاُ ومساء.
وكانت كثيراً ما تقع الواقعة ما بين أهل باب السريحة مسقط رأسه وباب الجابية التي نشأ فيها وترعرع، وما بين حي العمارة والقيصرية مواطن خصومه ومنافسيه، فيقتلون من أجله بالحجارة والمدى والخناجر، وتتقلب ساحات هذه الأحياء إلى ساحات قتال تنذر بأفدح العواقب وأسوأ الخواتم. . .
ولقد خرجت هذه الخصومات عن كونها داخلية صرفة، فانتقلت أخبارها إلى الخارج.
ولما رأى المنافسون أن لا قدرة لهم على تقويض أركان مسرح القباني، ودك معالمه ومنع صاحبه من مزاولة العمل نظراً لدفاع الرأي العام الواعي المثقف عنه ألفوا وفداً وعلى رأسه ابن الغبرة الشيخ سعيد، وكان شيخاً متحذلقاً ثرثاراً وهو أشد خصومه عليه قسوة ونقمة وكيداً وحسداً.
ركب هذا الوفد المتظلم المستعدي البحر ووجهته دار الخلافة العثمانية (استنبول) عاصمة الدولة، ولما وصل هذا الوفد إلى دار الخلافة مكث فيها مدة وهو يحتال للوصول إلى مقر السلطان دون جدوى، لأن الوصول إلى (عربسة) الأسد وقتئذ أهون من الوصول إلى مقر عبد الحميد نظراً لكثرة الاحتياطات والرقباء والعيون والأرصاد المنثبة حوله. . .
ولما يئس الوفد من مقابلة الداهية الجبار هم بالعودة من حيث أتى، بيد أن أعصاب رئيسه