للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والدماء لم تهدأ من غليانها بعد، ولكن بعد أن يسكن جأش الأمة، ويهدأ بالها، وتطمئن على كيانها، تتيقظ مطالبها الروحية، وحاجاتها الوجدانية، وأخصها الدين، وأين هو؟ ألتمس اليأس حفاظه فوجدوهم قد لبسوا القبعات واندمجوا في الشعب يعملون لكسب قوتهم!

نعم، وجدوا المساجد مفتحة الأبواب تستقبل جماهير المصلين، ولكن أين الدروس الدينية، وأين الوعاظ والمرشدون، وأين القضاة والمفتون، بل أين الطلبة المعممون، وأين أساتيذهم الموقرون؟!

الثورة قد أتت على كل هذه التقاليد، حتى إنك كنت لو سألت عن مصير هذه الحالة، قيل لك أن الحكومة ستصنع للدين وتدريسه نظاما لا يمكن معه أن تستغل سذاجة العامة للدس عليه ما ليس فيه، أو لإظهاره على غير ما هو عليه من النزاهة المثالية، والروح الوثابة، والمظهر المهيب. ثم يعقب ذلك سكوت طويل!

وكانت البلاد التركية غاصة بالملاجئ الدينية، والتكايا المذهبية تأوي إليها عشرات الألوف من أهل البطالة يستغلون بساطة النساء وضعفاء العقول، فكان الناس لا يجدون منهم رجلا يتلكأ في مشيته تحت جبته الفضفاضة، إلا خفوا إليه يقبلون يده، ويتلمسون البركة من الاتصال به، غير مفكرين في الأسباب العادية، والعوامل المادية؛ فكانت هذه الحالة من التعويل على الأوهام سببا رئيسيا في تقاعس الدهماء عن التفكير في معترك الحياة، وعن افتقارها إلى علم ومال ودؤوب. فكان النجاح في نظرهم نابعا للمحفوظ تصيب هذا وتخطئ ذاك، ومن تصب مترفعة إلى أعلى مما يتوق إليه، ومن تخطئ تقذف به إلى مكان سحيق!

هذه كانت الحالة العقلية للشعب التركي على نحو سائر العقليات الشرقية التي ينظمها جميعا رباط وثيق.

فكان رجال الثورة لا يجرؤن على إعادة الحرية الدينية خشية أن تفقدهم كلما حصلوه بجهادهم العنيف. وبعد أن مضى نحو ربع قرن على هذه الحالة نشأ رأي معتدل ناضل عن الحرية الدينية في نطاق حدده المسؤولون عن حفظ كيان الشعب، وإبعاد الغوائل عنه. أول من اقتحم هذه العقبة كان (جلال بايار) الذي كان رئيسا للوزارة وزعيما للحزب الديمقراطي. فطلب إلى الحكومة أن تحترم دين الأمة وهو الإسلام، وان تسمح بالعمل على نشره وبتدريسه في المدارس الابتدائية والثانوية.

<<  <  ج:
ص:  >  >>