موكب لم تشهد المدينة مثله منذ كانت، فلم يبق بها يومئذ أحد إلا خرج يتفرج، حتى النساء والصبيان، وحتى الشيوخ والعجزة؛ صورة فريدة من أمجاد غسان، أو هي صورة من أمجاد الإسلام في مطلع فجره لم يزل يتحدث عنها التاريخ حتى اليوم، والى الغد، والى الأبد!
والتقى جبلة بن الايهم وعمر بن الخطاب، وشهد ملك غسان أن لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله.
وأقام جبلة بالمدينة حتى جاء موسم الحج، فاعد عدته للرحلة إلى مكة ليؤدي الفريضة المكتوبة.
- ٣ -
في صعيد مكة - حيث يلتقي المسلمون كل عام من مشارق الأرض ومغاربها يطوفون بتلك البنية التي أقامها إبراهيم واسمعيل منذ القدم - لا يتبين ملك من سوقه؛ كل الطائفين عراة إلا من إزار غير مخيط يستر أبدانهم، ليس على رؤوسهم تيجان ولا عمائم ولا قلانس، حفاة إلا من خفاف لا تستر الأقدام من ظاهر، حشود هائلة قد وفدت من الشام واليمن، ومن عمان والبحرين وحضرموت، ومن مصر وبلاد البربر، ومن المدائن والقادسية، ومن وراء الجبال والرمال والبحار الصاخبة بالموج؛ لا عربي في ذلك الحرم ولا أعجمي، كلهم مسلمون يدينون بهذا الدين الواحد، هو (جنسهم) حين ينتسبون، وهو رباط قلوبهم حين يلتقون وحين يفترقون، تحيتهم حين يلتقون سلام، وحديثهم تلبية وتسبيح، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.
مشهد عميق الأثر، بليغ الدلالة على أسمى معنى من معاني الإخاء والمساواة والمحبة. . .
وكان جبلة الغساني يطوف مع الطائفين حول البيت، عاري الرأس ليس عليه تاج ولا ديباج، إلا إزارا غير مخيط قد لف جسده وتدلى عن كتفيه وانجر وراءه. . . وعن يمينه وشماله، وقدامه ومن وراءه، آلاف من الطائفين قد ائتزروا مثل إزاره، يتزاحمون بالمناكب ويطأ بعضهم أقدام بعض، ولهم ضجيج وعجيج وهتاف باسم الله صاعد إلى السماء. . .
وتعثر جبلة في زحمة الطائفين وهم أن يقع، حين وطئ إزاره طائف من فزارة فحله،