للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

خرت أمام سطوته، وعنت لعظمته، فخلف من المسلمين خلف بعد أن وقفت فتوحه، متأثرين بكل ما ذكر، وجعلوا من عقيدة الفطرة مشاكل ذرية، ومن غذاء الروح عقدا فلسفية، ووضعوا مصطلحات، واخترعوا علوما، وتركوا ميدان الحسام وجاهدوا باسلات اللسان، وهجروا صهوات الخيل، إلى مذاكرات الليل، وطرحوا خصام الكافرين، إلى جدال غيرهم من المسلمين، فأفسدوا من الإسلام مذاقه، وعكروا صفوه، وقسموا الأمة طرائق، وقطعوها خرائق، وكانوا أنكى على الإسلام ممن خاصمه بحد الحسام.

ورضى المستجدون على الإسلام والطارئين عليه من ملوك الأعاجم والترك، بعد أن دالت دولة العرب، بفهم الإسلام بهذا الوضع، لمشابهة العلوم الإسلامية المبتدعة، لما ألفوه من علوم الأديان الأخرى، وثنية وسماوية، فعظموا هؤلاء المبتدعين، ورفعوا شأنهم، ورأوا في تعظيمهم تعظيم الإسلام نفسه. وكيف لا يفعلون هذا، وقد قبله من حولهم من ملوك الروم للقساوسة والرهبان، ومن أعيان اليهود للأحبار، ومن ملوك الهند للكهان؟ أو لعل هؤلاء الحكام الجدد رأوا في هذا السلوك خدمة لعروشهم، بصرف الناس عن خدمة الدين بما خدمه به فقهاؤه الأوائل من جزيرة العرب، إذ أن فهم الإسلام هذا الفهم الأول، يعكر عليهم ما أخذ يحيط بهم من ترف ونعيم ولهو واستماع، ومن كان كذلك يعنيه أن يفصل بين ما لقيصر وما لله وأن يجعل الدين في المساجد والكتب، والملك العضود في الدنيا وزهرتها، وإلا لقام له من يقول: (لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناك بالسيف)، ومن يقول: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، ومن يطبق قول أبي بكر: (أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم) ومن يقول: (والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها، إنما اهلك بني إسرائيل أنهم كانوا يقيمون الحد على ضعفائهم دون أقويائهم).

أقول منذ فهم الإسلام هذا الفهم، ووضع هذا الوضع، وجعل علوما جدلية ونظرية علمية، وقواعد جافة، اخذ بناؤه ينقض حجرا حجرا، وعموده يميد شبرا شبرا، وأرضه تنتقص رقعة رقعة، ووحدته تتجزأ فرقة فرقة، حتى لم يبق منه إلا الذماء، أفلم يأن للبقية الباقية من المسلمين، الحرص على استرداد مجدهم، والحفاظ على ما بقى لهم، أن يعيدوا للإسلام جدته ويفروا إلى القران، ويسعهم من الدين ما وسع الصحابة رضوان الله عليهم، ويتركوا كل هذه التركة الثقيلة التي ما فتئوا يسمونها علوم الدين؛ والدين منها بريء، ويضيعون

<<  <  ج:
ص:  >  >>