للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وإذا رجعنا في هذا إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وجدناه يكتفي بتبليغ الدعوة لمن لم تبلغه، ويترفع في التبليغ عن كل ما يقف بالدعوة موقف المهانة، فلا يلح فيها على من يجد منه ترفعا عنها، ولا يستجدي فيها من يجد منه استثقالا لها، ولا يضطغن عداوة على من بلغه فلم يستجب له، بل يبقى ما بينهما كما كان قبل أن يبلغه دعوته.

فها هو ذا يبدأ دعوته فلا يبدؤها بالإلحاح على قومه، ولا يعرضها على كل شخص منهم ولو لم يأنس منه الإجابة إلى الإسلام، بل لا يدعو إلا من يأنس منه الإجابة إلى دعوته من أهله وأصحابه، فكان أول من آمن به زوجه خديجة بنت خويلد، وقد دخل عليه ابن عمه علي بن أبي طالب بعد إسلام خديجة بيوم فوجدهما يصليان، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد ما هذا؟ فقال له: هذا دين الله الذي بعث به رسله، فأدعوك إلى الله، وان تكفر باللات والعزى، فقال له علي وكان غلاما صغيرا: هذا أمر لم اسمع به قبل اليوم. فلست بقاضي أمرا حتى احدث أبا طالب - يعني أباه - فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم تردده لم يلح عليه، ولم يقف منه موقف الملح المستجدي، بل قال له: أن لم تسلم فاكتم. وكان لهذا الموقف الكريم أثره في نفس علي، فلم يلبث أن اسلم، ثم اسلم زيد بن حارثة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتبناه، ثم أسلمت أم أيمن، وكانت حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الأربعة كانوا من أهله، وكانوا اقرب الناس إليه، وقد دعا معهم أبا بكر بن أبي قحافة من بني تيم، وهم بطن من قريش، وكان اقرب أصدقائه إليه، ولهذا بدأ بدعوته دون غيره من أصحابه، فأسرع إلى التصديق به، وقال له: يا أبي أنت وأمي، أهل الصدق أنت، أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. وهكذا بدأت الدعوة عرضا كريما لا إلحاح فيه ولا استجداء، فكان إسلام من اسلم في ذلك الوقت إسلاما كريما قويا، لأنه كان استجابة خالصة للدعوة، ولم يكن فيه اثر يشينه لإلحاح أو استجداء أو نحوها.

وهذا عمه أبو طالب قام بكفالته وهو صغير، فلما بعث في سن الأربعين قام بحمايته من قومه وهو على دينه، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم منه هذه الحماية، واكتفى بان بلغه دعوة الإسلام، ولم يغير ما بينهما عدم استجابته له، بل كان ينزله من نفسه منزلة العم الذي قام بكفالته وهو صغير، ولا يثقل عليه من جهة ما يدعو إليه وهو كبير، ولا يوقعه في

<<  <  ج:
ص:  >  >>