ولكن المرء إذ يفكر تفكيراً نظرياً يذهب مذاهب ثلاثة، أو هو ينهج مناهج ثلاثة متباينة وإن اتحدت في الغاية وأعني بها المعرفة. فهو إما أن يلاحظ الظاهرة ويشاهدها ويفتش عن أسبابها ومسبباتها مستعيناً بالملاحظة المباشرة والمشاهدة الموضعية دون تأثر بالمخاوف والرغبات، أو الاستعانة بالأخيلة والأوهام، أو الخضوع للعقائد والآراء الشائعة؛ وحينئذ يقال إنه يفكر تفكيراً علمياً وينهج نهجاً موضوعياً. وإما إلا يكتفي بهذا التفكير الذي يرجع المعلولات إلى عللها والمسببات إلى أسبابها، بل يتجاوز هذا البحث في الجزئيات إلى البحث في أمور عامة لا ينالها الإدراك العادي كالخير والشر، والخلق والعدم، والروح والمادة، والأصل والمصير، بقصد الوصول إلى تفسير شامل للكون أو لجانب من جوانبه تفسيراً منطقياً لا تناقض فيه، بالاعتماد على الاستدلال أو الاستنتاج العقلي البريء من الخيال وتأثير الأهواء.
إن فعل المرء ذلك قيل إنه يتفلسف. أما الاحتمال الثالث فينصب على امرئ تحكمه أهواؤه، امرئ لا يخضع لمنطق العقل الذي يأبى التناقض، فلا يرجع المعلومات إلى عللها الحقيقية، ولا ينسب المسببات إلى أسبابها الملائمة، ولا يرد الظواهر الطبيعية إلى ظواهر من نفس العالم الطبيعي.
ولكنه امرؤ يفترض لهذه الأمور جميعاً أسباباً أو عللاً من ابتداع مخيلته، ومن نسج أهمته متأثراً بعقائد مغروسة في نفسه، مدفوعاً بأهواء متناقضة.
ولهذا نقول إنه يفكر تفكيراً خرافياً أو تفكيراً دينياً إذا قصدنا المعنى العام لكلمة دين الذي يطلق على أية عقيدة ترسخ في النفس دون مبرر منطقي أو ذريعة عقلية.
بعد هذه المقدمة التي لا مفر منها يحسن أن أتناول أساليب التفكير الثلاثة بالتفصيل مبتدئاً بأدناها، وأقلها قدرة على إصابة الحقيقة، وأسبقها ظهوراً في حياة الإنسان الفكرية: التفكير الخرافي الذي يسود تفكير الأطفال والمجانين والبدائيين من الشعوب أولئك الذين يتشابه أسلوبهم حين يعرضون لتفسير الظاهر.
الإنسان البدائي مثلاً يبدهه عديد من ظاهر الطبيعة يستوقف النظر ويدعو إلى التأمل: العواصف تطوح بمسكنه، والبرق يخطف الأبصار، والمطر يهمي بقوة لا تدفع، والظلام